بعد تحرير الجنوب عام 2000، كان استمرار “المقاومة الإسلامية” كجسم عسكري مستقل عن الدولة اللبنانية أمراً مفروضاً وغير متفق عليه. وبدا أن إرادة التحالف الإيراني- السوري وحزب الله أقوى بما لا يقاس من الاعتراض اللبناني العام. مع ذلك، فهذا الاعتراض اكتسب مشروعية متنامية رغم “مسمار جحا” المتمثل بمزارع شبعا.
وكما نعرف، تحول السجال حول استمرار “سلاح المقاومة” إلى انقسام سياسي-طائفي حاد أخذ يتبلور كعنوان لمواجهة مصيرية بين صيف 2004 وخريفها، حين صدر القرار الأممي الشهير 1559، الذي عنى تدويلاً للسجال اللبناني وتحويله إلى صدع زلزالي إقليمي كبير.
ونعرف أيضاً ما حدث تالياً من شباط 2005 وصولاً إلى هذه اللحظة، كتاريخ مليء بالألم والدم والخسارة والدموع.
نحن اليوم أمام احتمال جدّي باندلاع حرب ضد لبنان كله، تحت عنوان إزالة خطر حزب الله عن مستوطنات إسرائيل، كعود على بدء ما سمّي يوماً في العام 1982 “سلامة الجليل”.
وإذا كان الحزب قد استطاع قبيل حرب 2006 وبعدها، القول إن المعارضين له هم عملاء وخونة ومتآمرين على سلاح المقاومة، واستطاع أيضاً طوال العقد الأخير من تهفيت خطاب المناوئين له إلى حد أن بند “السلاح” بات خارج أي نقاش. فهو اليوم -وقياساً لما كان الحال عليه قبل 2019- لا يواجه عملياً أي تعبئة سياسية ضده، بغض النظر عن الخصومة المبدئية من قبل طوائف أو أحزاب أو كتل برلمانية. ولذا، من الصعب عليه مثلاً أن يستأنف معركة “السلاح دفاعاً عن السلاح” وما شابه. هو يواجه وحسب إسرائيل وحدها من دون القدرة على تحويل هذه المواجهة إلى صراع داخلي، لبناني-لبناني. كما أنه ربما للمرة الأولى يدخل المواجهة من دون مسوغ “تحريري” أو “ردعي” أو “دفاعي”، خصوصاً بعد نجاح مفاوضات الترسيم البحري، وطالما أنه أيضاً افتتح المواجهة الدائرة الآن تحديداً “نصرة لغزة” وبهدف واضح هو دعم حماس. أي بلا أي “مصلحة لبنانية” مباشرة.
وترتب على هذا الأمر، “تجميد” العمل بالقرار 1701، وكسر قواعد الاشتباك التي كانت قائمة قبل 7 تشرين الأول 2023. وبمعنى آخر، اضطر الحزب إلى الدخول في مخاطرة نشوب حرب من دون توافر أي شرعية سياسية لبنانية، أو دوافع سيادية أو شرعية ردعية ودفاعية، أو حتى “تحريرية”.
ومن الواضح، أن البيئة التي تحتضن “المقاومة الإسلامية” ورغم إيمانها العميق والتزامها الحقيقي بمعاداة إسرائيل بالمطلق، وتعاطفها التام مع غزة ورغبتها بتقديم كل أشكال الدعم والمؤازرة.. تبدو ضنينة جداً بما يشبه السلم الذي كان قائماً في الجنوب، ونادرة الحماسة لأي حرب قد تقع على لبنان وعلى جغرافيا هذه البيئة خصوصاً. وهذا بالطبع معطوف على أغلبية لبنانية ساحقة تعارض بشدة هكذا حرب. ومعارضتها هذه المرة، على الأرجح لا تتصل بأي “نكاية سياسية” أو اعتبارات طائفية، بل متصلة بالخوف الشديد والعجز عن تحمل تبعاتها التدميرية، بعدما أصبح لبنان على هذه الدرجة من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية. بل لأن اللبنانيين موقنون وهم يشاهدون ما يحدث في غزة، أن أي حرب ستنزل عليهم، سيكونون فيها وحيدين أكثر بكثير من الفلسطينيين أنفسهم، الذين يتوفر لهم على الأقل تعاطف إنساني وأخلاقي وسياسي وشعبي عالمي. وهذا ما لن يحظى به اللبنانيون أغلب الظن.
وإذ يسود اعتقاد أن الحزب لا يرغب بالحرب حقاً، للاعتبارات المذكورة آنفاً إضافة إلى حساباته “الاستراتيجية” والإقليمية، فإن المعضلة التي تجمع الحزب واللبنانيين وسائر الراغبين بمنع الحرب، هي كيف “نقنع” أو نردع إسرائيل عن شنها.
إنها معضلة حقيقية، في ظل جملة شروط إسرائيلية (تلقى تأييداً غربياً)، تتغطى بالقرار الأممي 1701، وتهدف ليس فقط إلى تسجيل هزيمة بحزب الله، إنما أيضاً إبطال أي شرعية لبقاء سلاحه. فحتى ولو تمت صفقة “ترسيم برّي” ترضي لبنان بلا أي حرب، فسيكون ثمنها على الأقل الوجود العسكري للحزب في الجنوب.
هذا المأزق –إذا صح التعبير- لا يخص الحزب وحده. إنه مأزق يخص مصير اللبنانيين. وأول ما يتوجب علينا فعله الآن هو أن نعمل سوياً وبصوت عالٍ، مع الحزب و”بيئته”، من أجل حلّ خلاق، ربما لا يمنع الحرب فقط، بل يؤسس لوفاق لبناني جديد يكون هو أفضل الأسلحة لصون البلد.