وإذا كانت المجتمعات الديمقراطية تتميز بالعلاقة الجدلية بين السياسة والفكر، أو الثقافة، وهذا ما يحمي السياسة والثقافة من الجمود والانغلاق، فإن السؤال دائمًا ما يطرح نفسه عند كل محاولة ترمي إلى تدخل السياسة في الإبداع، كما السجال الجاري اليوم في ألمانيا بسبب إيقاف منح الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي جائزة ليتبروم في معرض فرانكفورت للكتاب في دورته الحالية الخامسة والسبعين (18 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول)، عن روايتها المترجمة إلى الألمانية “تفصيل ثانوي” (2022)، وهذه الجائزة تمنح للمؤلفين من الجنوب العالمي، مع التحفظ هنا على هذا التصنيف الذي يُطرح بديلًا عن العالم الثالث، أو النامي، الذين تم نشر كتبهم حديثًا باللغة الألمانية، ولقد حظيت روايتها بإشادة عدد كبير من النقاد، فيما انتقدها آخرون بشدة، بدعوى أن الرواية فيها “إشارات معادية للسامية”، كما جاء في قرار جمعية ليتبروم لمنح الجائزة: رواية عدنية شبلي هي عمل أدبي مشغول بدقة يحكي عن تأثير الحدود، وما تفعله الصراعات العنيفة بين الناس. وكانت هيئة المحلفين قد اتخذت قرارها قبل أشهر عديدة من قيام حماس بمهاجمة إسرائيل في السابع من هذا الشهر، تحت عملية طوفان الأقصى.
وجاء في صحيفة “تاز” مقال يشير إلى أن الرواية “تفصيل ثانوي” تشوّه سمعة إسرائيل، بوصفها أنها أداة قتل، فالإسرائيليون هم مغتصبون وقتلة، بينما الفلسطينيون هم ضحايا المحتلين، هذا هو الأساس الإيديولوجي واللا إنساني لكتاب طافح بهذه الصور النمطية.
هل هنالك ما هو أقدر وأهم من الأدب في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والأزمات وكل القضايا الإنسانية ومشاكل الشعوب؟ إنها رسالة الأدب الأولى، وهي رسالة سامية ونبيلة، لذلك هنالك ضحايا كثيرون دفعوا أثمانًا باهظة في سبيلها، ولأنهم آمنوا بها، آخرهم سلمان رشدي، الكاتب البريطاني من أصول هندية، الذي تعرض العام الفائت إلى اعتداء من متطرف إسلامي أدى إلى فقدانه إحدى عينيه، وسيتم تكريمه في المعرض.
*****
رواية “تفصيل ثانوي” الصادرة في عام 2017 هي رواية قصيرة (113 صفحة)، تقسم إلى قسمين، في القسم الأول الذي ينتهي في الصفحة 57، هنالك جريمة اختطاف واغتصاب وقتل فتاة عربية في صحراء النقب، موثقة، وقعت في 13 أغسطس/ آب 1949، من قبل كتيبة عسكرية إسرائيلية جاءت إلى صحراء النقب، عثر أفرادها على سقيفتين وبقايا جدار سقيفة غير مهدم، هي كل ما نجا من المكان “بعد القصف العنيف الذي تعرض له في بداية الحرب”.
افتتح الضابط الحديثَ شارحًا بأن مهمتهم الرئيسية في أثناء وجودهم هنا ستكون، “بالإضافة إلى ترسيم الحدود الجنوبية مع مصر، ومنع المتسللين من اختراقها، تمشيط القسم الجنوبي الغربي من النقب، وتنظيفه من بقايا العرب”. وكان حريصًا على ترسيخ فكرة أن لوجودهم هناك وصمودهم أهمية لا تقل عن انخراطهم في عمليات عسكرية محددة، فلهم دور مركزي في السيطرة على المنطقة، وتثبيت خط الحدود الجديد مع مصر، وتأمينه من محاولات اختراق المتسللين. تدور الأحداث في ذلك الزمن على أربعة أيام فقط، 9 أغسطس/ آب، وحتى 13 منه، تقع فيها عملية استهداف مجموعة من العرب مع جِمالهم قرب نبع ماء، بعد جولات استطلاع عديدة بحثًا عن المتسللين، كما يقول الضابط قائد الكتيبة، وخطف فتاة مع كلب.
بأمر من الضابط تمارس الإهانة والإذلال بحق الفتاة، وذلك بتعريتها أمام الجنود، إذ يقوم الضابط بشق ثوبها، وتعريضها لخرطوم ماء، وإجبارها على غسل نفسها بالصابون، ثم تسليط الماء عليها، كما لو أنه يغسل دابة، أو آلية، ثم يقوم الحلاق بجز شعرها، ودهن رأسها بالوقود من أجل القمل، وإلباسها ثيابًا من ثياب الجنود، فتبدو كأنها واحدة منهم، إلا عندما تهمهم وتصرخ وتحتج، فتعود، بلغتها التي لا يفهمونها، غريبة عنهم، تنتهي مأساتها في اليوم الثاني، بعد اغتصابها من قبل قائد الكتيبة، ثم تناوب العساكر عليها، وأخذها للدفن بعد إطلاق عدة رصاصات عليها.
يقوم السرد في هذا القسم على الوصف والمشهدية، فيبدو شبيهًا بالسيناريو، مع براعة في وصف المكان، وكأن السرد كاميرا تصوّر، حتى يوشك المكان أن يكون أحد أبطال السرد، والتمكن في رسم شخصية الضابط، الذي تعرّض إلى لدغة عقرب في أول ليلة، جعلت السم يتغلغل في جسده، والورم مع النخر والتقيح يتمادى على فخذه، والحمى التي تتفاقم وتتمكن منه، فتختلط قشعريرتها بقشعريرة الشهوة والغريزة، في لحظات يتمازج فيها الضعف البشري في أحط حالاته، مع الجبروت والغطرسة في أقصاها، إذ في لحظة اغتصاب الفتاة بتقييدها وسد فمها، يكون الضابط الواقع تحت سطوة الحمى، في أشد الحالات ضعفًا وبحثًا عن الدفء في جسد آخر.
في هذا القسم، أيضًا، تتم الإضاءة على هدف تواجد الكتيبة هناك، انطلاقًا من الأهداف المعلنة حينها، بحسب السردية الصهيونية، ففي وليمة العشاء التي جمع الجنود إليها يتحدث الضابط إليهم: “الجنوب لا يزال في خطر، وعلينا أن نفعل كل ما في وسعنا للصمود والبقاء فيه، وإلا سنفقده. علينا ألا نتوانى وبكل ما أوتينا من قوة وعزم لبناء هذا الشق من دولتنا اليافعة، وحمايته والحفاظ عليه للأجيال المقبلة، ما يُلزمنا بأن نخرج للبحث عن العدو بدل انتظار ظهوره ’فمن ينوي قتلك، عاجله بالقتل’”. ثم يستفيض في التذكير بالسردية المعروفة، من أن هذه أرض الأجداد، وأن العرب يرفضون فكرة عيشهم فيها بدافع قانون عاطفتهم القومية العقيم، وهم أهملوها وتركوها مهجورة قرونًا طويلة، من واجبنا طردهم منها نهائيًا. في تركيز، أيضًا، على البون الشاسع الحضاري بينهم وبين العرب “البدو”، الذين لا يعرفون غير قلع النباتات والرعي، فمواشيهم تبتلع كل ما يمتد أمامها من خضرة. وأنهم هم سيحولون النقب إلى منطقة مزدهرة ومتحضرة ومركز للتعلم والتطور والثقافة، كما فعلوا بمناطق الشمال، ويذكّرهم بعبارة وجدوها عندما وصلوا إلى المكان على جدار شبه مهدم: “ليس المدفع الذي سينتصر، إنما الإنسان”. هذه العبارة التي سترد في القسم الثاني من السرد.
في القسم الثاني، الذي يبدأ مع الصفحة 58، تتولى السرد فيه بضمير المتكلم صحافية في بداية عملها الجديد، ومنزلها الجديد، ومع زملاء عمل جدد طيبين، تشغلها قضية الحدود، ليس الجغرافية فحسب، بل الحدود بين الأشياء، في العلاقات، في السلوك، وفي كل أمر، وتشغلها التفاصيل الثانوية، وهي تبرر ذلك بعدم قدرتها على تمييز الحدود بما فيها المنطقية، ما يجعلها تخطئ في تقييم أمر ما، حتى إنها تتمنى أنها لم تسبب أي إرباك حين ذكرت الموقف مع الجندي على الحاجز العسكري، أو “حين أُفصح أننا نحيا تحت الاحتلال”، وفي جو حرب باستمرار منذ وقت طويل، حتى إنه “لم يبقَ كثير ممن هم على قيد الحياة قادرين على تذكر التفاصيل الصغيرة المتعلقة بشكل الحياة الذي كان سائدًا قبل ذلك”.
تم إيقاف منح الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي جائزة ليتبروم في معرض فرانكفورت (Getty) |
يشغلها أمر مقالة كانت قد قرأتها عن جريمة موثقة لخطف واغتصاب وقتل فتاة جرت في صباح ما، سيصادف بعد ربع قرن بالضبط تاريخ ميلادها، ما يشكل الربط بين القسم الأول والثاني من الرواية، فتتصل بكاتب المقالة لتستفسر منه حول التحقيق الذي أجراه، وهل هنالك وثائق يمكن أن يطلعها عليها، فيخبرها بأن الوثائق في متحف الجيش الإسرائيلي في تل أبيب.
هذا التفصيل الثانوي، مصادفة يوم ميلادها مع يوم الجريمة بفارق ربع قرن، هو ما دفعها إلى الشروع في رحلة البحث في اقتفاء أثر تلك الجريمة، بالرغم من فاجعيتها، لكن هل هي نرجسية منها؟ تتساءل، ربما، لكن بالنسبة إليها لا تحب حياتها، ولا الحياة بشكل عام، كل جهودها تنصب في البقاء على قيد الحياة، الأمر ليس له علاقة بالنرجسية، إنما بسبب عدم قدرتها على تمييز الحدود بين الأشياء، والحكم على الأمور بشكل عقلاني، لكن المفيد هو النظر إلى التفصيلات الثانوية، كأن يلفتها أمر الغبار أكثر من مقتل الشبان الثلاثة في البناء الذي فجرته السلطات قريبًا من مكتبها لأنهم متحصنون فيه، أو كمن لا يرى في لوحة أمامه إلا بقايا ذبابة غطّت عليها.
تقرر الذهاب بنفسها من الضفة الغربية إلى جنوب إسرائيل لاقتفاء آثار الجريمة، والبحث عن “التفاصيل الثانوية” حولها، تريد أن تطلع على المكان، وترجع إلى الوثائق، فتبدأ الرحلة التي من خلالها تحكي تاريخ المنطقة، تبدأ منذ احتيالها على تقسيم المنطقة إلى مربعات سكانية أمنية، لكل منطقة حدود صارمة في ارتياد ساكنيها مناطق أخرى بمنحهم بطاقات ملوّنة تخص أمكنتهم، فتستعير بطاقة هوية زميلة لها، إلى أن يصدمها الواقع بتغير الأمكنة كلها، يصدمها بمحو كثير من الصور التي خبرتها، أو تعرفها، عن المكان، والتي تشير إليها الخريطة التي برفقتها وتعود لفلسطين قبل 1948، هناك محو واضح للجغرافيا وما تحمل من معالم هوية سابقة. فالمشهد كله، مع الخريطة الإسرائيلية، يؤكد على غياب كامل لوجود ما هو فلسطيني فيه، في أسماء المدن والقرى المخطوطة فوق اليافطات، وفي لوحات الإعلانات المكتوبة بالعبرية، وفي المباني حديثة العهد، وفي الجدران الإسمنتية الفاصلة.
عندما لم توفق في الاهتداء إلى مكان الجريمة، أو الحصول على ما يطفئ ظمأها ويهمد فضولها حول تلك الحادثة التي شعرت أنها معنية بها بشكل خاص، كونها ولدت بعدها بربع قرن بالتمام، أفلتت من يدها، كعادتها في علاقتها مع الحدود، دليلًا محتملًا ظنت أنه يكمن في ذاكرة من بقوا في المكان، عندما أقلت سيدة سبعينية في سيارتها، لكنها لم توفق في فتح حديث معها، وبعد أن أنزلتها حيث أشارت، بدأ الندم يوترها فعادت لتبحث عنها، لكنها دخلت في منطقة عسكرية، وسمع إطلاق رصاص عندما واجهت جنودًا في المكان “فجأة يغمرني ما يشبه الحريق الحاد في يدي ثم صدري، يليه أصوات إطلاق نار بعيدة”، وتنتهي الرواية بهذه الجملة.
لماذا ربط هذا العمل الإبداعي بأيديولوجيا ما، بينما هي معاناة فردية مرتبطة بمعاناة جماعية؟ أليس للشعب الفلسطيني حق في أن يعبّر عن معاناته؟ وهل الصراع العربي الإسرائيلي، برغم كل تعقيداته التي تراكمت مع الزمن، ليس قضية واقعية وحقيقية؟ وهل أن يتحدث فرد فلسطيني ما زالت حياة أجداده نابضة في وجدانه وذاكرته وواقعه اليوم، هو تطاول على إسرائيل ومعاداة للسامية؟
إن رواية “تفصيل ثانوي” عمل أدبي إبداعي لافت، فيه ما يصور قسوة الشعور الدائم باليأس وانغلاق الحياة، وما تؤدي إليه الصراعات العسكرية المستمرة من تدمير وتهديد للحياة، جدير بأن يؤخذ بعين النقد الأدبية فقط، لا أن يخضع لمشرط السياسة، أو يحاكم بادعاءات تستند إلى أيديولوجيا ما، خاصة في دولة تدافع عن قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات وحقوق الإنسان، وحق الشعوب في الدفاع عن سيادتها وتقرير مصيرها.
في العودة إلى مقدمة المقالة، فإن ما يظهر فرقًا جوهريًا بين حرية الإبداع والتعبير في المجتمعات الديمقراطية، وتلك الواقعة تحت سلطة سياسة وثقافة استبدادية، أن هنالك آراء كثيرة ومواقف تدافع عن شبلي، وعن ضرورة استقلال الثقافة عن السياسة، فقد كتبت المتحدثة باسم جمعية الكتاب في برلين إيفا ميناس: “إما أن يكون الكتاب يستحق الجائزة، أو لا يكون، في رأيي قرار لجنة التحكيم بشأن شبلي الذي اتخذ قبل أسابيع كان قرارًا جيدًا للغاية، وسحبُ الجائزة منها سيكون خطأً جوهريًا، سياسيًا وأدبيًا”.
وقال دنيز يوجيل في الوقت نفسه: إن رواية “تفصيل ثانوي” بعيدة كل البعد عن الإشارات المعادية للسامية بشكل واضح.
بينما الأصوات الرافضة تصر على أن الرواية فيها إشارات إلى معاداة السامية، ويربط بعض منها ضرورة المنع بما يجري الآن في غزة وإسرائيل، كما جاء في صحيفة “تاز”: ربما لا يتم ذكر العنف ضد المدنيين الإسرائيليين، لأنه ينظر إليه على أنه وسيلة مشروعة في النضال من أجل التحرير من المحتلين، وهذا، بحسب الصحيفة، هو الأساس الأيديولوجي وغير الإنساني للكتاب. بينما لا ترى تلك الأعين الإبادة الجماعية التي تحصل في غزة، ويحاكم الشعب الفلسطيني بكامله على أنه حماس فقط.
ولا بد من الإشارة إلى أن جمعية ليتبروم قالت بشأن الجائزة والتطورات الأخيرة: بسبب الحرب في إسرائيل، قررت (مع الكاتبة) إلغاء حفل توزيع الجوائز في معرض فرانكفورت للكتاب، حسبما كتبت على موقعها الإلكتروني، فلا أحد يشعر بالرغبة في الاحتفال الآن. ولكن الكاتبة تقول إن القرار فُرض عليها، كذلك فإن جمعية النهوض بالأدب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ترغب في الاحتفاظ بالجائزة عن الرواية، رغم الانتقادات.
كما علق مدير معرض كتاب فرانكفورت يورغن بوس على الأحداث في الشرق الأوسط قائلًا: “إننا ندين الإرهاب الهمجي الذي تمارسه حماس ضد إسرائيل بأشد العبارات الممكنة. إن الإرهاب ضد إسرائيل يتناقض مع قيم معرض فرانكفورت للكتاب ويقف المعرض بتضامن كامل إلى جانب إسرائيل”، وبالتالي فإن الهدف هو “إبراز الأصوات اليهودية والإسرائيلية بشكل خاص في المعرض”!
ومن ردات الفعل على هذا القرار كان احتجاج ما يقارب 600 كاتب وناشر ومترجم حول العالم عليه، من بينهم ثلاثة نوبليين: آني إرنو/ عبد الرزاق قرنح/ أولغا توكارتشوك.
أخيرًا، كتبت جمعية ليتبروم في وقت سابق، ردًّا على طلب من منظمة حقوق الإنسان أنها “تفكر بشكل مكثف في شكل وتوقيت حفل توزيع الجوائز، في ضوء الحرب في إسرائيل، المقرر عقده في معرض الكتاب. والجائزة نفسها مبنية على معايير أدبية”، ما يعيد طرح السؤال مرة أخرى: أين هي حرية الفكر والإبداع من الاستقلال عن الاستقطاب السياسي؟