كنت أستحضر هذه المحطات الدرامية، مرتحلًا ومعايشًا ومستذكرًا كثيرًا منها، وأنا أتتبع السيرة الإبداعية للدكتور الشاعر السارد السيناريست وليد سيف، ثم لامست تفاصيل أكثر وأعمق وأنا أقرأ كتابه اللافت “الشاهد المشهود”، الذي وسمه بأنه “سيرة ومراجعات فكرية”، وقبل ذلك بفترة قليلة كنت قرأت له روايته “ملتقى البحرين”، التي وجدت فيها تداخلًا بين شخصياتها وبين بعض شخصيات مسلسل “ربيع قرطبة”، خاصة ذاك التشابه بين الجارية قمر في الرواية والجارية صبح في المسلسل، وكلتاهما صارتا زوجتين للسلطان في الرواية وفي المسلسل، وكلتاها وقعتا في حبين متناقضين، وإن كانتا داخل قصر السلطان.
وإضافة الى تتبعي السيرة والكتابة الدرامية لوليد سيف، فإنني في مرحلة دراستي للهندسة الكيميائية في الجامعة الأردنية، خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، كنت قرأت لوليد سيف دواوينه الشعرية “قصائد في زمن الفتح”؛ “وشم على ذراع خضرة”، و”تغريبة بني فلسطين”، وتابعت له على شاشة التلفاز مسلسلات أتذكرها كما الحلم؛ كان أولها “الخنساء” (عمري آنذاك كان 11 عامًا)، وبعده كان “عروة بن الورد”، و”شجرة الدر”، و”طرفة بن العبد”، وهذه الأعمال الدرامية أبدعها دراميًا المخرج صلاح أبو هنود. ربما كان لهذه المسلسلات بعض أثر في حبي وتعلقي بالتاريخ، وتوجهي في القراءة والبحث إلى هذا الجانب الذي صار يتلبسني، ومنه دخلت إلى عوالم الأديان والأسطورة، التي تركت أثرًا عميقًا في كتابتي للقصة والرواية والمسرح، وكذلك في مشروع كتابتي وبحثي في المكان، وترحالي في تدوين بوح القرى الأردنية، وذاكرة المكان بشكل عام.
جغرافيا ماء القلب
أعود إلى كتاب “الشاهد المشهود”، هذا السرد الروائي لسيرة وليد سيف الشخصية والعلمية والعملية والإبداعية والفكرية والأكاديمية. هو يتتبع في الكتاب ميلاده وعائلته في طولكرم، ثم تتتالى حبات مسبحة السنوات عبر محطات كثيرة وزعها في فصول وعناوين تعكس متن الكتابة والسيرة في كل فصل، فطولكرم فيها المذاقات الأولى، وحنين المنزل الأول، والمدرسة، والأصدقاء، والأهل، ورسم للجغرافية بماء القلب، ووجع التذكار، هو في كتاباته هنا يعيد رسم حاله وأحوال من كانوا حوله بعين الشوق والرضى، حتى معلمه الذي قسا عليه يقول فيه “لسوف يأتي يوم تدركه فيه، فتسترجع ذكراه بالحب والخير والشكر والعرفان، وتطلب له الرحمة حيًا وميتًا كفاء ما أبدى لك من الرحمة المحتجبة بالقسوة الرادعة، والغلظة الرائعة، والسلطة الجائعة”، هذا مثال على حنوّه على ذكرياته وهو يكتبها. ولعله في هذا الفصل يشي بميوله نحو الدراما والسينما وهو يمر على سينما الفريد، وسينما الأندلس، التي كان اسمها سينما حيفا، حيث “كان إلى هناك يفر من ملالة مدينة تنام مع غروب الشمس، ليكون النسيان لساعة أو ساعتين في نافذة تطل على صور جميلة تنتجها مصانع الأحلام في هوليوود والقاهرة”. وهو يكتب عن تلك المراحل الأولى يصوّر الجغرافية كأنه يسير فيها الآن؛ الطرق، الدكاكين، المقاهي، البيوت، الفضاءات، ومعها يستحضر الشخوص والمواقف والأحداث في تلك الفترة.
وبمرور سريع خلال عناوين الكتاب، والتفاصيل المتشعبة فيه، سيكون هنالك مرور على محطات حياته كمرحلة الجامعة، ودراسته في الجامعة الأردنية، وهنا صعد نجمه شاعرًا وكان طالبًا متفوقًا وناشطًا في العمل الطلابي، ثم كان تعيينه معيدًا في الجامعة، وبعدها تم ابتعاثه إلى لندن. ولكن في سيرته هنا، في مرحلة الدراسة الجامعية، ستمر أحداث هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وانعكاساتها عليه وعلى الطلاب في الجامعة، وهو يمر على مرحلة انضمامه إلى حركة فتح، ومعاناته في التعيين معيدًا في الجامعة، وسفره إلى بيروت، وهناك جدل كثير سياسي واجتماعي وثقافي في هذا الفصل من حياته، فيه كثير من آرائه، ويعكس أيضًا ما كان من حراك فكري وسياسي وثقافي في تلك المرحلة؛ في الجامعة، في الأردن، في المنطقة بأكملها.
شِعرية السرد… ظِلال السيرة
عند كل نقطة من حياته، أو حادثة مرّ بها، يدخلك الدكتور وليد سيف إلى موضوعات عامة ومهمة وقضايا فكرية وجدلية، يبدأها بالخاص، ثم ينطلق نحو السياق العام ليطرح المسألة ويسترسل فيها حتى يشبعها، ثم يعود ليلظم ما كتبه في تلك السياقات مع سيرته الذاتية ليستمر في اتجاه محطات أخرى تحمل عناوين نابضة بالحنين والعناية في صياغتها، مثل “ظل السنديانة وأساطير القرية”، و”بين كتاب الدرس وكتاب الأنثى”، و”هزائم الوعي بعد الهزيمة”، و”متاهات الأيديولوجيا: الفصائل والقبائل”، و”هواجس النفس ووثبة الإيمان”، و”السفر إلى حاضر الغير وماضي الذات”، تلك بعض عناوين فصول الكتاب، عناوين فيها شعرية وظلال شفيفة تحمل القارئ إلى محتوى تلك الفصول من حياة صاحب السيرة، على بساط الشوق والدهشة واللغة الراقية الأنيقة، حتى يكون الوصول الى الفصل قبل الأخير من الكتاب الذي عنوانه “حياة مع الدراما”، وكنت قد أِشرت الى بعض محطاتها في بداية كتابتي هذه، وفي هذا الفصل هو ممتن لدخوله عالم كتابة الدراما، فهو يُصرّح: “هكذا أعتقتني الدراما من قيد الوظيفة، وما يمكن أن يلابسها من قهر الرجال”، هو شاعر في البدء، والحرية مملكة روحه، وقد استعاد هذا الإحساس أيضًا في كتابته الدراما، حريته على المستوى الشخصي، وعلى مستوى الخيال والفكر، فقد كانت الوظيفة حجابًا قاتمًا بالنسبة له. في هذا الفصل الخاص بالدراما، يقدم وليد سيف تجربته الخاصة في كتابة الدراما، ولكنه يناقش كثيرًا من المسائل الفنية والتقنية والمتخصصة في الدراما العربية، ومواقع القوة والضعف فيها، وهو يرى أنه يكتب في جوانب كثيرة من الأعمال الدرامية التي أبدعها جوانب من سيرته وسيرة من حوله (“التغريبة الفلسطينية” مثلًا)، وحلمه، وأيضًا أحلام جمعية يتلمسها، خاصة وأن الأعمال الدرامية التاريخية هي نبض المكان والزمان، وتثير جوانب مختلفة من الذات العربية عندما تكون العودة إلى مخطوطات تاريخها، وإعادة اكتشافها وتقديمها، وتكون أكثر عمقًا وتأثيرًا حين تكون كتابتها من مفكر وشاعر وأديب له وجهة نظره التي تتموضع بسلاسة في النص الدرامي الذي يكتبه.
دراما إنسانية
الفصل الأخير من الكتاب، قبل الخاتمة، فيه جواب على سؤال “لماذا هجرت الشعر؟”، وبعده تأتي خاتمة قصيرة للكتاب فيها حديث وبوح حول أسرته الصغيرة؛ زوجته وأبنائه.
لكني في الفقرة الأخيرة هذه أريد أن أعود الى مقدمة “الشاهد المشهود”، لأني تحسست تفاصيل هذه المقدمة وصدقيتها في متن الكتاب حين أتممت قراءته، فأعدت تأمل ما كتب في المقدمة، لأجدني قرأت رواية ودراما إنسانية في هذا الكتاب الذي ينتمي إلى كتب السيرة، لكنه مختلف عنها، ويحتاج إلى تصنيف أو تجنيس مغاير ربما. وأقتبس في الختام ما يشير إلى بعض ذلك في المقدمة: (مناط الأمر ليس صاحب السيرة نفسه، وما جرى عليه في سيرة الحياة من وقائع استثنائية، فحياة الفرد، أي فرد، هي دراما إنسانية يتجلى فيها الشرط الإنساني والوجودي بكل ما فيه من أفراح وأتراح وأحلام متحققة أو منكسرة. مناط الأمر هو فعل الكتابة ومدى قدرته على الاستبصار والتأمل وتغريب العادي المألوف، والغوص في بواطنه المضطربة بالهواجس والتساؤلات والرؤى، والبحث عن المعاني وخلقها، ثم تقويضها والتفاوض مع الحياة وإغراءاتها وتهديداتها الدائبة… إن نصّ السيرة هو رواية الكاتب عن نفسه أو غيره، والرواية هنا هي الموضوع، وليس تمثيلًا للموضوع. إنها صورة الكاتب وصاحب السيرة هنا والآن).