أحمد رحال

على مدار العقدين السابقين، على أقل تقدير، طبل نظام الأسد وكامل ما يُسمى محور المقاومة الذي ترعاه ولاية الفقيه في إيران لما يُسمى “وحدة الساحات” أو ترابط الجبهات، وتلك الشعارات الوهمية تعني بالمفهوم المقاوم الإيراني ربط جبهات كل من إيران واليمن (الحوثي) والعراق (الميليشيات الولائية) وحزب الله في لبنان إضافة لجبهة الجولان السوري وقطاع غزة، وهدد هؤلاء أن أي تعرض لإحدى تلك الجبهات سيستدعي تضافر الجهود العسكرية لما تبقى، ليكونوا في خندق واحد يواجه أي استحقاق عسكري، وخرجت علينا الآلة الإعلامية للأذرع الإيرانية لتحدثنا على عشرات آلاف الصواريخ والمسيّرات التي ستنهال على إسرائيل إذا ما فكرت لمجرد التفكير باستهداف إحدى أذرع إيران في الشرق الأوسط، رغم أن القاصي والداني يتابع وبشبه يومي القصف الجوي والصاروخي الإسرائيلي على مواقع ميليشيات إيران وحزب الله على الأراضي السورية، إضافة لقصف معظم شحنات الأسلحة والصواريخ التي يشحنها الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا، حتى أن إسرائيل قامت مؤخراً بإخراج مطاري دمشق وحلب الدوليين عن الخدمة وبشكل نهائي مع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومع ذلك لم نشاهد أي رد إيراني أو أسدي على كل عمليات الاستهداف التي طاولت ميلشيات إيران وأذرعها في سوريا، بل اكتفت وكالعادة بتصريحات وتهديدات إيرانية تصرف ككل مرة على شاشات الفضائيات دون أن يكون لها أي ترجمة على الميادين وساحات المواجهة.

لكن الحرب الإسرائيلية المعلنة على قطاع غزة (عملية السيوف الحديدية) التي اندلعت عقب عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في مستوطنات غلاف غزة، كان لها صدى أكبر من حيث موقف أذرع إيران الداعمة لحماس والجهاد الإسلامي، خاصة مع الاجتماع الذي حصل في منطقة السيدة زينب في ريف دمشق، وبحضور قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني وممثلين عن كل من حزب الله، حركة حماس، حركة الجهاد الإسلامي، لواء القدس السوري، إضافة لضباط يمثلون نظام الأسد، وفيه خرج المجتمعون بقرار أن أي اجتياح لقطاع غزة سيستدعي تدخل محور إيران وتفعيل مبدأ “وحدة الساحات”، لكن تشكيل المجموعة البحرية الأميركية الضاربة في حوض المتوسط الشرقي والتي ضمت حاملة طائرات “إيزنهاور” وحوالي 18 قطعة بحرية أمريكية، مدعومة بعدة أسراب جوية، وإعلان واشنطن أن مهمة تلك المجموعة الأساسية هي مواجهة أي طرف ثالث يدخل الحرب الدائرة في قطاع غزة، أجبرت إيران وأذرعها على سحب تهديداتهم والالتفاف عبر تصريح يقول أنهم سينتظرون نتائج معارك غزة ومن ثم يقررون الخطوة الثانية.

نظام الأسد ذهب أبعد من ذلك، فقد لوحظ أنه بعيد جداً عن كل ما يدور في قطاع غزة، ليس عسكرياً فقط من خلال عدم اتخاذ أي إجراء في الجولان لتنفيذ استراتيجية “وحدة الساحات”  التي لطالما هدد بها، بل إن مسؤوليه الإعلاميين ومحطات التلفزة والصحافة عبّروا في دوائرهم الضيقة أنهم في حالة ضياع كامل، خاصة أنه ممنوع عليهم أي ذكر لحركة حماس التي تدفع ثمن وقوفها إلى جانب الثورة السورية في السنوات الأولى. ورغم انسحاب الحركة عن مواقفها الداعمة للثورة واصطفافها وتحالفها مع إيران، إلا أن ذلك لم يغفر لها من قبل نظام الأسد.

بعض المصادر أكدت أن موقف الأسد الذي قرر فيه الخروج من استراتيجية وحدة الساحات (الإيراني) والتنصل منه ليس نابعاً عن عقوبة لحركة حماس، بل إن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي وكبار المسؤولين الإسرائيليين كانت رادعة وراعبة للأسد في حال قرر التدخل بكل ما يدور من حرب في قطاع غزة، وظهر ذلك جلياً في القمة العربية والإسلامية التي احتضنتها المملكة العربية السعودية والتي تحدث فيها رئيس النظام السوري عن القضية الفلسطينية بفلسفات كلامية دون أي تطرق لقطاع غزة أو حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهناك معلومات تسرّبت للصحافة عن رسائل إسرائيلية جادة نقلتها أكثر من عاصمة غربية وعربية ووصلت للأسد مفادها أن أي انجرار أو تدخل أو دعم يمكن أن يقدمه نظام الأسد لفصائل غزة عبر فتح جبهة الجولان أو القيام بأي نشاطات عسكرية يمكن أن تُربك الجيش الإسرائيلي، سواءً كانت تلك التحركات عبر جيش الأسد أو عبر أدوات إيران المنتشرة في سوريا؛ فالعقاب سيطال نظام الأسد. وذهبت التهديدات لأبعد من ذلك عندما هدد زير الدفاع الإسرائيلي “غالانت” باستهداف القصور الرئاسية للأسد، بمعنى أن قتل بشار الأسد قد يكون من ضمن الإجراءات العسكرية التي قد تتخذها إسرائيل في سوريا.

يُدرك بشار الأسد تماماً أن من أنقذه من الضربات الأميركية عند استخدامه للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2013 كانت إسرائيل بالتعاون مع روسيا، وأن دعم إسرائيل للأسد كان مجدياً لدى الأوربيين، وقد خفف عن الأسد ومنع الكثير من الإجراءات الأوروبية والعقوبات الغربية، ويدرك الأسد أيضاً أن المظلة السياسية الإسرائيلية هي من أمّنت له الحماية والبقاء في السلطة حتى الآن، لذلك وبتفاهم مع طهران كان قرار بشار الأسد التنصل من وحدة الساحات والابتعاد عنها، خاصة أن إيران أيضاً تخلت عن فصائل غزة خشية الدخول بالمحظور، والمحظور الإيراني هو المواجهة مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإن إيران أوعزت لأذرعها الإرهابية وخاصة الحوثي في اليمن وحزب الله في لبنان، عدم تخطّي قواعد الاشتباك المعمول بها، والاكتفاء بمناوشات هزلية تحفظ ماء وجه إيران وأذرعها، لكن، شرط ألا تغضب واشنطن أو تل أبيب، وهكذا وجدنا غزوة العامود لحزب الله مقابل مزارع شبعا، وشاهدنا صواريخ ومسيرات حوثية عبثية لا تضر ولا تنفع من اليمن، لكن عندما أرادت إيران تكرار نفس السيناريو من جبهة الجولان، ورغم أن قذائفها لم تتعد حدود الجولان المحتل، قامت طائرات وصواريخ إسرائيل بتدمير مستودعات اللواء 112 التابع للفرقة الخامسة قرب مدينة درعا، ودمرت المنصات الصاروخية التي استخدمت بالإطلاق إضافة لتدمير محطة الرادار، برسالة إسرائيلية واضحة للأسد وإيران أن فتح جبهة الجولان خط أحمر، وأن تكرار العملية قد يتسبب بردود قاسية من قبل إسرائيل قد لا يحتملها نظام الأسد، وتلك الرسالة قرأها جيداً بشار الأسد وعمل عليها، وعاد ليؤكد النأي بالنفس عما يسمى وحدة الساحات أو ترابط الجبهات، حتى في الخطاب الإعلامي الأسدي لم نعد نسمع أبواق دمشق تتحدث عما تفعله إسرائيل في قطاع غزة، لذلك اضطر حسن نصر الله لتخصيص عدة دقائق من خطابه الأخير لشرح موقف الأسد وتبرير غيابه عن دعم غزة وما يُسمى وحدة الساحات.

أهم ما يمكن أن يُقال بهذا الخصوص، هو أن الشعب العربي والسوري يُدرك تماماً كذب وخداع إيران وكل حلفائها وخاصة الأسد، وأن الشعارات القومجية والعربية ما هي إلا “عدة الشغل”، تستخدم لغسيل عقول أتباعهم، وأن كل ما يبحث عنه هؤلاء هو استمرارهم بالسلطة وسيطرتهم على مقدرات وقرار شعوب المنطقة، وأن مهمة الأسد وسبب بقائه بالسلطة ما هو إلا لقتل السوريين وتدمير ما أمكن من سوريا، وأن غزة وكل قضية فلسطين لا تعني لهؤلاء إلا وسيلة وشعار وذرائع تُستخدم للخداع والتضليل يتم التسلق عليها لتحقيق أهدافهم التي لا تتطابق بتاتاً مع أهداف شعوب المنطقة.ِ