بالرغم من أنّ الحرب الإسرائيليّة على “حماس” مثّلت نبأً سيّئاً للرئيس الأميركيّ جو بايدن على المستويين السياسيّ والانتخابيّ، تمكّنت إدارته إلى حدّ ما من السيطرة على الأضرار. ظلّت الحرب محصورة كثيراً في الداخل الفلسطينيّ، بينما ضبطت قواعدُ اشتباك ضمنيّة المناوشات العسكريّة بين الجيش الإسرائيليّ و”حزب الله”.

في الصورة العامّة، بدت احتمالات انفلاش الحرب مقيّدة تقييداً معقولاً. لكن ما لم تتوقّعه الإدارة على الأرجح هو تشكيل الحوثيّين خطراً مستمراً على الملاحة الدوليّة في البحر الأحمر. أسوأ ما حصل في 2023 بالنسبة إلى بايدن اندلاع ما شبّهه البعض بنسخة معاصرة من أزمة قناة السويس.

أكثر من 100 هجوم

أعلن الحوثيّون دخول الحرب إلى جانب الفلسطينيّين في 31 تشرين الأوّل (أكتوبر)، وأطلقوا على مدى أسابيع مسيّرات وصواريخ باتّجاه إسرائيل وسفن حربيّة أميركيّة في البحر الأحمر تمّ اعتراض معظمها. وفي الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) أسقط الحوثيّون مسيّرة أميركيّة من طراز “أم كيو 9 ريبر”. الحدث المفصليّ بالنسبة إلى الملاحة الدوليّة في مضيق باب المندب طرأ في 19 تشرين الثاني حين بدأ الحوثيّون يستهدفون ما قالوا إنّها سفن إسرائيليّة أو سفن متوجّهة إلى إسرائيل، وقد احتجزت حينها البحريّة التابعة لهم سفينة “غالاكسي ليدر” وعلى متنها 25 فرداً.

استمرّت الهجمات في الأسابيع التي تلت، وقال مسؤول أميركيّ في 20 كانون الأوّل (ديسمبر) إنّ الحوثيّين أطلقوا خلال هذه الفترة أكثر من مئة هجوم بالصواريخ أو المسيّرات  تجاريّة مختلفة. وأعلن الحوثيّون الثلثاء أنّهم شنّوا هجوماً بالصواريخ على سفينة تجاريّة تابعة لشركة “إم إس إي يونايتد” في البحر الأحمر بعدما رفضت ثلاثة نداءات تحذيريّة. وكانت السفينة في طريقها من المملكة العربيّة السعوديّة إلى باكستان.

 

نقطة ضعف الغرب

إذا استمرّ تصعيد الحوثيّين في البحر الأحمر فسيشعر العالم بتداعياته الاقتصاديّة. تتوقّع شركة “رابوبَنك” للخدمات المصرفيّة والماليّة انخفاضاً بنسبة 20 إلى 25 في المئة في حجم الشحن البحريّ الذي تتولّاه الشركات العالميّة في المنطقة. لذلك، لا يستبعد الخبير الاقتصاديّ   أن يفرض ذلك صدمة على التجارة تماثل تلك التي شهدها العالم خلال فترة الحجر بسبب فيروس “كوفيد-19″، إن لم يكن أسوأ. فصنّاع القرار الغربيّون مرتبكون بحسب رأيه والحلّ الوحيد لهذه المشكلة هو وقف إسرائيل حربها، بالرغم من أنّه لا يتوقّع ذلك.

تبرز أهميّة مضيق باب المندب  نحوَ 12 في المئة من التجارة العالميّة ونحو 30 في المئة من حركة الحاويات العالميّة. كما يحتضن 8 إلى 10 في المئة من تجارة الغاز والنفط المنقولين بحراً. ويقول المدير الإداريّ لشركة الاستشارات بشأن الطاقة “كليرفيو إنرجي بارتنرز”  “لقد كان هناك دوماً اهتمام كبير بممرّات النفط والشحن لأنّها قد تكون صغيرة نسبياً على المستوى الجغرافيّ لكن ذات تأثير عالميّ. يسعى خصوم الولايات المتّحدة والحلفاء الغربيّين أحياناً إلى الاستفادة من نقاط الاختناق تلك لأنّها يمكن أن تمارس مثل هذا التأثير الكبير على الديناميّات العالميّة”. بمعنى آخر، سيستغلّ الحوثيّون نقطة ضعف الغربيّين الحرجة في مضيق باب المندب. السؤال الآن هو عن خطّة الولايات المتحدة وحلفائها لردع الحوثيّين.

صراع إرادات

أعلنت واشنطن الأسبوع الماضي تأسيس “عمليّة حارس الازدهار” التي تشارك فيها عشرون دولة لحماية السفن المبحرة في البحر الأحمر. شهدت هذه العمليّة التباساً في مواقف حلفاء أوروبيّين مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا لجهة الإمرة والقيادة. لكنّ ذلك لم يمنع بعض الشركات الكبيرة من إبداء ثقتها بالعمليّة فأعلنت “ميرسك لاستئناف رحلاتها في البحر الأحم

بالمقابل، اعتبر الحوثيّون أنّ بيانهم عن هجوم الثلثاء هو بمثابة “بيان نعي لتحالف حماية السفن في البحر الأحمر”. بذلك، ستمثّل سنة 2024 صراع إرادات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والحوثيّين ومن خلفهم إيران من جهة أخرى. يدرك بايدن أنّه لا يستطيع التهاون في قضيّة سلامة الملاحة في البحر الأحمر. لا يتعلّق ذلك باستياء حلفاء واشنطن التقليديّين في الشرق الأوسط وحماية هيبة الولايات المتحدة على المستوى العالميّ وحسب، بل أيضاً بآفاق الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة بعد أقلّ من 11 شهراً. فبالرغم من أنّ  في الولايات المتحدة بدءاً بتراجع معدّل البطالة إلى أقلّ من 4 في المئة وصولاً إلى تباطؤ معدّل التضخّم، لا يشعر الأميركيّون بتحسّن أوضاعهم المعيشيّة، ما ينعكس سلباً على حجم تأييد الرئيس. مع إضافة ما يمكن أن يتحوّل إلى “عاصفة تضخّميّة” بحسب تعبير بيلكينغتون، قد لا ينجو الحزب الديموقراطيّ من “عاصفة انتخابيّة” في 2024.

لكنّ الإرادة الأميركيّة لا تبدو في غاية الصلابة حالياً. في أحد الجوانب، لا تزال الولايات المتّحدة متحفّظة في رسائلها إلى إيران والحوثيّين. على سبيل المثال، يصرّ المسؤولون في الإدارة على توصيف تحالف “حارس الازدهار” بأنّه دفاعي. . في السياق نفسه، بالكاد استدعى أكثر من مئة هجوم على المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط منذ 17 تشرين الأول بضعة ردود أميركيّة موضعيّة على مطلقيها، بالرغم من أنّ تلك الهجمات أكثر من 60 جريحاً أميركياً في شهرها الأوّل وحسب. تصف “” تلك العمليّات العسكريّة الانتقاميّة بأنّها أقرب إلى “الوخزات”.

 

“السّهام” الحوثيّة

توقّعت مجلّة ” صعوبة استدامة الموقف الأميركيّ الدفاعيّ على المدى الطويل. فقد يجد الحوثيّون أنّه من المغري احتجاز التجارة العالميّة والمطالبة بفدية للإفراج عنها، ولهذا السبب، تحثّ المجلّة الأميركيّين وحلفاءهم على الاحتفاظ بخيار قصف الحوثيّين. في هذا السياق، نقلت شبكة ” عن أربعة مسؤولين “مطّلعين” قولهم إنّ التخطيط جارٍ لتحرّكات هادفة إلى عرقلة قدرة الحوثيّين على استهداف السفن التجاريّة، من بينها خيار بردّ “ثقيل” بحسب توصيف أحدهم.

لكنّ مشكلة السفن الحربيّة العسكريّة المنضوية في تحالف “حارس الازدهار” أنّها لن تكون قادرة على الانتشار في كلّ مكان وفي وقت واحد كما قال محلّل شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسّسة “راين” رايان بول. إلى أنّه “ما دام هناك عدد كبير من السفن المدنيّة على امتداد هذه المنطقة، فسيكون لدى الحوثيّين الكثير من الأهداف للاختيار منها”. ولهذا السبب، قد يكون استهداف الحوثيّين أمراً لا مفرّ منه بالنسبة إلى إدارة بايدن.

يقول روبرت بي موريت، نائب أميرال متقاعد من البحريّة الأميركيّة، في  الاقتراب من اتّخاذ خطوة عمليّة ضدّ الحوثيّين: “أنا متأكّد من أنّه قد تمّت إزالة الغبار عن الأهداف الهجوميّة”.

وأشار موريت إلى وجود قول مأثور في البحريّة مفاده: “أنت لا تطلق النار على السّهام. أنت تطلقها على رامي السهام”.

ما إذا كانت الإدارة مقتنعة بهذا القول المأثور أمر متروك لسنة 2024 كي تكشفه. إلى الآن، يبدو أنّها قانعة بإسقاط السهام وحدها.