يتصارع يهود مؤيّدون لإسرائيل وعرب داعمون لفلسطين، على خلفيّة الحرب المشتعلة في قطاع غزة والعمليات العسكريّة الناشطة في الضفة الغربيّة، على إضفاء هويّاتهم الوطنية على السيّد يسوع المسيح الذي احتفل غالبيّة العالم بولادته في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) الجاري.
وذهب مؤيّدون لحركة “حماس” إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ استعملوا تقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل إدخال تحويرات على الأيقونات الخاصة بالسيد المسيح، فحمّلوه الكلاشنيكوف هنا وزنّروه بالحزام الناسف هناك وألبسوه الكوفية الفلسطينية هنالك. وسار أكثر من ألف شخص في نيويورك رافعين شعار “يسوع فلسطيني ولد في بيت لحم”، وقال سياسيّون يدعمون “حماس” إنّ يسوع المسيح فلسطيني صلبه اليهود.
واستاء يهود مؤيّدون لإسرائيل من محاولة الفلسطينيّين وضع اليد على “يسوع”، فسارعوا إلى الرد بأنّه يهودي بكل ما للكلمة من معنى، ولم يكن هناك، بين ميلاد يسوع المسيح وموته، أي كيان اسمه فلسطين، فبعد هزيمة غوليات على يد داوود انتهت “فلستيا” التي ينشق منها اسم فلسطين، ولكن الأمبراطوار الروماني سمّى الأراضي التي كانت تقوم عليها مملكتا إسرائيل ويهودا، في عام 135 بعد الميلاد، باسم “سيريا فلستيا” عقابًا على الشعب اليهودي الذي انتفض، للمرة الثالثة، ليحصل على استقلاله من الأمبراطوريّة الرومانية فلحقت به هزيمة تاريخيّة تخللتها مجازر وتشتيت ونزوح.
وفي مقالة نشرها في صحيفة “جيروزاليم بوست”، أجرى جوردان كوب مسحًا لما هو وارد في الأناجيل الأربعة، من أجل أن يؤكد أنّ يسوع هو يهودي.
واللافت للانتباه أنّ أكثريّة من أقحموا أنفسهم في صراع “تجنيس المسيح” لا يؤمنون به، فالإسلاميّون يرددون أنّ عيسى بن مريم لم يُولَد لا في بيت لحم ولا في أيّ بقعة من فلسطين التاريخية، وهم مقتنعون بأنّ كل الروايات الإنجيلية من مولده حتى موته باطلة، فيما اليهود ينفون أن يكون يسوع المسيح نبيًّا ويذهب المتديّنون منهم حتى إلى نفي وجوده أصلًا، وهم، في الواقع، لا يزالون، حتى تاريخه، ينتظرون مجيء المسيح، أي ملك اليهود!
في الواقع، إذا تمّت العودة الى الأناجيل، فهي أصرّت على إثبات يهوديّة يسوع، بحيث رسم الرسول متى الإنجيلي “شجرة العائلة” من أجل نسب “ابن الله” إلى بيت داوود وسبط يهوذا. وربطت الأناجيل كل ما أقدم عليه يسوع الناصري بالمناسبات اليهودية: تقديمه إلى الهيكل، تطهيره، تقديم الأضاحي عنه، مشاركته في النقاشات التوراتية، الدخول إلى الهيكل، إقامة الفصح قبل اعتقاله، والحكم عليه بالموت صلبًا على أساس أنّه يهودي، وفق ما كانت تنص عليه القوانين الرومانيّة، آنذاك.
ولكن، بغض النظر عن الهوية الحقيقية ليسوع المسيح، فهو لا يصلح لهذه النوعيّة من الاستغلال اليهودي أو الفلسطيني، فهو، من الناحية اليهودية، أتى ثائرًا على “الناموس” وعلى السلطة الدينيّة وحتى على فكرة إقامة مملكة مستقلة، وعلى ربط التواصل مع الله من خلال الأمكنة والهياكل. بسبب ثورته هذه التي دفعته إلى إثارة الاضطراب في الهيكل، عشية حلول عيد الفصح اليهودي، عندما انتفض على التجار الذين “حوّلوا بيت الله من بيت صلاة إلى مغارة لصوص”، تمّ الحكم عليه، بموجب القانون الروماني، بالإعدام صلبًا.
إذًا، حتى لو كان دقيقًا أنّ يسوع المسيح هو يهودي بالولادة، إلّا أنّ ما يصح أكثر أنّه دفع حياته ثمنًا لثورته على التقاليد والنواميس والطموحات اليهوديّة وعدم ربطه عبادة الله بالهيكل، “إذ حيثما طلبتموني تجدوني” و”كلّما اجتمع اثنان باسمي أكون بينهما”.
أمّا بخصوص الفلسطينيّين عمومًا والمؤيدين لـ”حماس” خصوصًا، فالأنسب لهم أن لا يربطوا أنفسهم بيسوع المسيح، على قاعدة أنّ بيت لحم التي ولد فيها كما الناصرة التي ترعرع فيها هي ضمن فلسطين الحاليّة، لأنّه وقف موقفًا صلبًا ضد العنف بكل أنواعه، وحين رفع بطرس الرسول سيفه لمنع الفرقة التي أتت لاعتقاله في جبل الزيتون من أن تفعل، نهره وقال له: “من يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ”. وبطبيعة الحال، لم يكن قائل “اهدموا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيّام” ليرضى أن يكون جزءًا من حرب حملت عنوان “طوفان الأقصى”، بغض النظر عن أي نقاش يثبت أو ينفي أحقيتها السياسيّة وملاءمتها الإستراتيجية.
وبهذا المعنى، فإنّ يسوع المسيح لو كان عنفيًّا، لما كان قد صلب في الأساس، فالشعب، حين عرض عليه بيلاطس البنطي العفو عن يسوع أو عن بارابيا، اختار بارابيا لأنّه مؤهل لقيادة تمرد مسلّح في حين أن يسوع يتطلع إلى ملكوت السموات ولا تعينه بشيء ملكوت الأرض، “لأنّ مملكتي ليست من هذا العالم”.