
“لا يصل مهاجر إلى أوروبا هذه الأيام إلّا كلّ طويل عمر، ونحن السوريين أثبتت الظروف والأيام أنّ أعمارنا قصيرة، والشواهد كثيرة، وبينها غابات تركيا واليونان ودول شرق أوروبا التي امتلأت بجثث العابرين برداً وغرقاً وموتاً مجانياً”، تقول المهندسة لمياء منصور في معرض شرحها لـ”النهار العربي” عن اختيارها وجهة هجرة بديلة من “الحلم الأوروبي”.
وتقول: “أوروبا حلم نعم، نحن، كل السوريين في الداخل والمنافي القريبة نغبط من وصل إلى هناك في عزّ موجات الهجرة التي لم نتجرأ على أن نخوضها وقتذاك، أوروبا تمنحك المال والجنسية والأمان والاستقرار النفسي والعائلي والمجتمعي، ولكن للأسف ليست كل الدروب تودي إلى روما فعلاً، ونحن لم نرد أكثر من خيارٍ فيه نجاةٌ من المطحنة الوطنية”.
منصور التي خشيت ركوب قوارب الموت، وخافت التشرّد في الغابات والأنهار، لم تفارق مخيلتها لحظةً فكرة الهجرة نحو أي مكان تحقق فيه نفسها ومستقبلها وشيئاً من أحلامها، لذا وصلت قبل عامين إلى دبي في رحلة لا تحمل من المخاطر شيئاً، عن تلك الرحلة تقول: “هذه هجرة شرعية، تيكيت وفيزا وحجز طيران من بلدك إليها، وفي دبي صار احتمال أن تقابل سوريّاً تعرفه أكبر من إمكان مصادفته في دمشق، لاسيما إذا كان من جيلك، وجيلنا لم يبقَ منه أحدٌ، والباقون يحزمون أمتعتهم”.
بلدان ومصائر
لحقت منصور بآلاف أو عشرات آلاف ممن سبقوها من السوريين إلى البلد الذي شقّ الحصار عن صدورهم مرحّباً بهم زائرين أو عاملين أو سياحاً أو بأيّ صيغة.
كذلك فعلت القاهرة، ومثلها بغداد، ومعهما أربيل، وبقيود معينة الدوحة، وسلطنة عمان أيضاً، وقبل كل ذلك السودان الذي احتضن الآلاف منهم قبل أن تشتعل به نيران حربٍ، هي ذاتها الحرب التي هربوا منها ليلاقوا أشدّ منها ضراوةً وأكثر عنفاً في مصيرٍ ملاحق جعلهم هاربين للمرّة الثانية من أتون حرب تطارد أرواحهم عبر الحدود.
دول امتلأت فضجّت
خلال كل ذلك كانت الدول السبّاقة لاحتضانهم هي لبنان وتركيا والأردن، حتى امتلأت بهم نازحين، فضجّت بأعدادهم التي أثقلت كاهل حكوماتها وأفضت الى بطالة متنامية كبّلت السوق المحلي بالتزامن مع أزمات نسبية عصفت بتلك الدول أشدّها في لبنان الذي ما عاد خياراً استراتيجياً للترحال (الهجرة) بقصد العمل، وإن كان الأمر موجوداً لكنه تضاءل تحت وطأة أعداد السوريين المليونية.
في تلك الأثناء برزت دول المشرق من سوريا (العراق والخليج) كبلدان تحمل أسواقها كمّاً من العمل يحتاج إنجازه لطاقات بشرية متجددة.
وهذا ما حصل مع أحمد عيتاني الذي هاجر إلى دبي مطلع العام الجاري 2023 متأملاً بإيجاد فرصة عمل ملائمة مع شهادته (هندسة ميكانيك)، ولكنّه بعد بحث استغرق شهرين ونصف لم يتمكن أن يظفر إلّا بعمل في معرض سيارات صغير.
“مدينة رهيبة”
يقول عيتاني لـ”النهار العربي”: “ليس العمل الذي حلمت أو أحلم به، لكنّها دبي، مدينة رهيبة، مغرقة بالجمال والغرابة… الخيارات كلّ يوم تقلّ في ظلّ كثرة العمالة، وكثرة السوريين هنا، السوريون القادمون من بلد الحرب والذين يقبلون العمل بأيّ شيء ليعيشوا، وهم الذين يُقال إنّهم كانوا إلى جانب اللبنانيين الأعلى أجراً في الخليج، اليوم كلاهما بين الأدنى أجراً، حتى أدنى من الهندي”.
ويضيف: “اتقاضى 3500 درهم (950 دولاراً)، قد يبدو الرقم للسوريين في الداخل فوق الحلم بمراحل، ولكنّه في دبي لا شيء، بالكاد يكفي طعاماً وسكناً وتنقلاً، وبشق النفس أوفر شهرياً 100 أو 50 دولاراً أرسلها لأهلي في سوريا، أنا أعمل لـ 14 ساعة في اليوم، فحتى إمكان أن أبحث عن عمل آخر يكاد يكون مستحيلاً إلاّ حين أحاول عبر تطبيقات العمل في التواصل الاجتماعي”.
“بلدي الجديد”
يبدو حال أحمد عيتاني مشابهاً في خطوطه العامة لنورا مرجان خريجة الآداب في جامعة دمشق، والموجودة في دبي منذ ثلاث سنوات ونيف، تقول: “اليوم أفهم دبي جيداً، هذه مدينة صمّمت نفسياً لتأخذ منك لا لتعطيك، مهما بلغ جنيك الشهري فيها فستصرفه، إنّها دبي المعجزة، المدينة التي تسحرك وتأسرك وتجعلك مرغماً على صرف أموالك لكثرة ما فيها من جمال وتسالٍ وغرائب ومحاكاة لنماذج مدن العالم المتقدّم”.
وتضيف: “أتقاضى شهرياً نحو 1600 دولار، مع عمولات إضافية أحياناً. فأنا أعمل في شركة تتيح نظام الحوافز، أجد نفسي كليّاً في هذه المدينة، لا أفكر بزيارة بلدي، حين اشتاق لوالديّ أدعوهم الى زيارتي، اليوم!، لا أشعر بأيّ رابطْ بيني وبين سوريا، لا ذكريات ولا مشاعر ولا حنين ولا أي شيء، هي بالنسبة اليّ مجرد بلد على الخريطة، ولكنّه بلد ترك داخلي جرحاً مفتوحاً يوم قَتل أناسٌ فيه عمّي الذي رباني بتفجير مفخخة قبيحة”.
خيارات السوري في الإمارات
تشرح أخصائية التغذية ميرنا جمّول التي وصلت الى الإمارات منذ بضعة أشهر لـ”النهار العربي” بعض التفاصيل التي تواجه السوري هناك حين يصل، إذ يكون عليه بدايةً أن يؤمّن السكن قبل العمل والطعام، ثم أن يبحث في كيفية إيجاد عمل.
تقول: “يجري الحجز وتأمين الفيزا والإقامة من خلال مكاتب السياحة الكثيرة في سوريا، وحين يصل السوري إلى هنا إن لم يكن أحد بانتظاره (وهذا ما يحصل غالباً) فسيكون لديه تصور مسبق عن طريق الانترنت عن السكن، وهناك خيارات عدة أولها وأسوأها، ولكنّه الخيار النموذجي موقتاً، هو ما يسمّى (شيرينغ) أي سرير في غرفة فيها أسرّة لأشخاص آخرين، وعادةً يكون إيجار السرير شهرياً 100 دولار بحمام ومطبخ مشتركين للنزلاء”.
وتتابع: “وهناك خيارات أخرى بين غرفة مستقلة في منزل مشترك، أو غرفة في منزل مشترك ولكن لها حمامها المستقل، أو سويت، أو شقة مستقلة، وتبدأ تلك الخيارات بالترتيب من الأسوأ للأفضل من 300 دولار وصولاً الى آلاف عدة من الدولارات بحسب خيار السكن والمنطقة، فمثلاً في منطقة (مارينا) الشهيرة في دبي قد يصل الإيجار لـ 3 آلاف دولار”.
ميرنا تنصح الشباب السوري المقبل على الهجرة إلى الإمارات بالتفكير في مناطق أخرى للعمل خارج دبي، كالشارقة وعجمان وغيرهما من الإمارات، “هناك صحيح أنّ فرص العمل أقل، ولكنّ المعيشة كذلك أرخص بكثير وإمكان ادخار الأموال أوسع بوضوح”.
“طعم الذل”
ولعلّ ما ينطبق على الإمارات ينطبق على العراق، تحديداً في بغداد وأربيل، وهناك أيضاً أجور السوري متدنية، ولكنّ المعيشة أرخص منها في الإمارات بكثير، ما يتيح جني الأموال بيسر أكثر، والأمر أيضاً نسبي بحسب سوريين في العراق حاورهم “النهار العربي”، وأشار بعضهم الى أنّ أربيل تتجّه لتكون دبي شكلاً ومضموناً مستقبلاً، فيما تبقى بغداد أكثر يسراً وسهولةً للمعيشة أفراداً أو عائلات.
خلال هذه الأيام يتهيأ علاء عرفان، وهو شاب لم يكمل تعليمه الجامعي، للسفر إلى أربيل مطلع العام القادم، وذلك بعد أن تمكن من تأمين عمل في مجال المبيعات في شركة مجوهرات عن طريق صديق له يعمل هناك.
يقول: “سيكون مرتبي الشهري 1200 دولار، اعتقد أنّه رقم جيد. فأنا أيضاً سأقيم لدى صديقي في الأشهر الأولى، والفكرة عموماً ليست في الراتب عينه، بل في الهجرة، في انقطاع أملنا من هذا البلد، من عدم إرادتنا إياه، في معرفتنا بأنّه سيحتاج عقوداً طويلة ليعود كما كان، وعقوداً أطول منها ليكافئنا على (صمودنا) في سنواته العجاف التي كدنا في أواخرها ننسى طعم اللحوم وندمن طعم الذل”.
بعد أن عزّت الأحلام
لم يبدأ سفر السوريين إلى دول الخليج والجوار كطارئ في أشهر مضت، هو لا شك موجود منذ بدأت الحرب في بلادهم، ولكن الحالة الجمعية التي تخاطب عقولهم بالهجرة حرّضت على رحيلهم نحو الجوار بشكل متزايد وملحوظ جداً، بعد أن صارت الدروب إلى أوروبا مغلقةٌ إلّا في وجه من تبتسم له السماء.
الهجرة الشرعية صارت الخيار المتنامي للسوريين، هجرةٌ مضمونة لا مخاطر فيها ولا طرق معقّدة و”جندرما” تعتقلهم، معززين مكرّمين من مطار بلدهم إلى مطار وجهتهم، هجرة يدلّل على دورها ازدهار عمل المكاتب السياحية، ورغم أنّها هجرة تترك البلد فارغاً وراءهم، ولكنّها تحفظ لهم ما يمكن التعويل عليه من مستقبل حدّاه الأمل والحلم في مكان عزّت فيه الأحلام على ساكنيه.