عاش إقليم كردستان العراق عام 2023 على وقع اضطراب علاقته السياسية والاقتصادية والتشريعية مع السلطة المركزية، الحكومة الاتحادية والأحزاب السياسية الرئيسية في البرلمان، وإلى جانبها هجمات عسكرية شنتها كل من إيران وتركيا وفصائل عراقية مقربة من الحشد الشعبي على مناطق الإقليم.
مع بداية العام، وجهت الأحزاب السياسية الكردية في الإقليم رسالة إلى الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، حذرت فيها من انتهاك الحقوق الدستورية للإقليم ضمن العراق، ومن تجاوز شرط التشاركية والتوافق بين الأكراد وغيرهم من المكوّنات في المناطق المتنازع عليها، بالذات في مدينة كركوك التي لفتت الأحزاب الكردية إلى السياسات التي يتبعها المحافظ المعيّن من الحكومة المركزية راكان الجبوري، وليس من مجلس المحافظة المنتخب، متهمين إياه باتباع سياسات تناهض الأكراد في المحافظة. كذلك حذرت الأحزاب الكردية من استنكاف الحكومة المركزية عن تطبيق اتفاقية سنجار، والاستمرار في غض النظر عن هيمنة الميليشيات المرتبطة بالحشد الشعبي على المنطقة ذات الأغلبية الكردية المطلقة غرب محافظة نينوى.
صدامات الفلاحين… وانتخابات محلية
في أواسط شهر آذار (مارس) تصاعدت المواجهات الميدانية بين الفلاحين الأكراد والتركمان والعرب، المتنازعين على ملكية الأراضي في أرياف محافظة كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها، والتي كادت تؤدي إلى أعمال عنف واسعة على أساس قومي، بالذات في منطقة “سركران”. فالفلاحون العرب كانوا يستندون إلى وثائق ملكية صادرة عن مجلس قيادة الثورة لحزب البعث الحاكم سابقاً، فيما كان نظراؤهم الأكراد والتركمان يطالبون بإلغائها، لأنها كانت جزءاً من سياسات التعريب الممنهج التي طالت المناطق الكردية.
في السياق نفسه، كانت الأحزاب الكردية تتحين فرصة إجراء انتخابات مجالس المحافظات لتعديل كفة التوازن في توزيع السلطة في المناطق المتنازع عليها، في محافظات كركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين. لكن حينما أجريت تلك الانتخابات في أواسط الشهر الجاري، لم تحقق الأحزاب الكردية مراميها السياسية ففقدت أغلبيتها البرلمانية في محافظة كركوك، إذ حصلت على 7 من أصل 16 مقعداً في مجلس المحافظة، فيما حصدت ما هو أقل من ثلث مقاعد مجلس محافظة نينوى، الأمر الذي قد يهدد بتصعيد واضطراب سياسي محلي في كل تلك المناطق.
أزمة اقتصادية خانقة
على أن أصعب موقف واجهه الإقليم خلال عام 2023 كان صدور قرار محكمة التحكيم التجاري الدولية في العاصمة الفرنسية باريس في أواسط شهر آذار، والذي قضى بـ”عدم شرعية” تصدير إقليم كردستان النفط المستخرج من أراضيه عبر تركيا، من دون موافقة الحكومة المركزية، فارضة غرامة على تركيا. حكومة الإقليم قبلت بتسليم النفط إلى الحكومة المركزية، لتقوم بتصديرها عن طريق شركة تسويق النفط الوطني وتصديره “سومو”، لكن تركيا امتنعت عن التصدير، إلا بقبول الحكومة العراقية بمجموعة من الشروط، على رأسها التنازل عن الدعوى المرفوعة بحقها في المحاكم الدولية، وتحمل تكاليف الدعوى وتكاليف توقف التصدير.
وقعت حكومة إقليم كردستان في أزمة اقتصادية خانقة جراء ذلك، وانتظرت ثلاثة أشهر كاملة، إلى أن أقرت الحكومة والبرلمان العراقيان قانون الموازنة العامة، مانحين إقليم كردستان نسبة 12.67 في المئة من الموازنة العامة. لكن الحكومة لم تطبق بنود الموازنة، مطالبة بمجموعة من الالتزامات الإضافية من حكومة الإقليم، مثل تسليم كل موارد الإقليم العامة، وليس نصفها كما كان التوافق من قبل، وإلى جانبها تقديم الحسابات الختامية لكل الأعوام السابقة، وتدقيقاً شاملاً لجداول موظفيه العموميين.
لن تتمكن حكومة الإقليم من تقديم رواتب موظفيها اعتباراً من شهر تموز (يوليو)، البالغة أكثر من بليون دينار (قرابة 700 مليون دولار)، تُمنح لأكثر من 1.2 مليون موظف ومتقاعد في الجهاز الحكومي. الحكومة الاتحادية قدمت بعض الحلول التوافقية، مثل الطلب من المصارف الوطنية تقديم قروض إلى حكومة الإقليم، إلى حين حل الملف بينها وبين الحكومة الاتحادية، أو تقديم مبادرة لتعديل قانون الموازنة العامة، أو مساعدة الإقليم في بعض القضايا المالية الثانوية.
تسببت الأوضاع الاقتصادية هذه بحالة ركود شاملة في الإقليم، فتراجعت قيمة العقارات في مختلف نواحي الإقليم، الذي يشهد نهضة عمرانية في مختلف مناطقه. كذلك قاطع عشرات الآلاف من المعلمين العملية التعليمية في الإقليم، بالذات في محافظة السليمانية، ما صار يُهدد بفقدان أكثر من مليوني طالب في الإقليم حقوقهم في التعليم.
الباحث والكاتب شفان رسول شرح في حديث إلى “النهار العربي” أسباب هذا التصارع الاقتصادي بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم، قائلاً: “ما يكشفه الأمر هو عدم إيمان القوى السياسية المركزية في العراق بالفيدرالية، وتطلعها إلى فرض مضامينها بأي شكل كان. فخلال الأعوام 2017-2021، وبعد انتهاء معركة مواجهة “داعش”، فعلت القوى العراقية كل شيء لتحجيم الإقليم جغرافياً، فاستولت على كل المناطق المتنازع عليها، متجاوزة في بعض المناطق ما كان خاضعاً للإقليم منذ عام 1991، ومستغلة التوافق الإقليمي والصمت الدولي على ذلك. لكن، حينما صار ذلك محل اعتراض دولي، تحولت إلى استخدام الملف المالي/القانوني، مستخدمة قرار محكمة باريس إلى أقصى مدى. فما يجب أن يُسأل عنه في هذا السياق، هو سبب عدم التزام الحكومة المركزية تقديم قانون وطني للنفط والغاز إلى البرلمان، كما تعهدت أثناء تشكيل الحكومة، محددة مدة ستة أشهر كأقصى مدى زمني لها، لكنها لم تفعل أي شيء بعد مرور أكثر من عام على حكمها”.
تدخل عسكري تركي
في أوائل العام أيضاً، انسحب الجزء الأعظم من القوات التركية من إقليم كردستان، تحت ضغط الهجمات التي شنها مقاتلو حزب العمال الكردستاني، مستغلين المناخ الجبلي القاسي. لكن الجيش التركي أعاد التمركز في عشرات القواعد العسكرية في المناطق الجبلية في الإقليم، في مناطق آفاشين وخواكورك وزاب، متعهداً إطاحة كل مقاتلي العمال الكردستاني من خلال عملية “المخلف القفل”. لكن الاستثنائي هذا العام كان زيادة الهجمات الجوية التركية على مختلف مناطق الإقليم، مستخدمة بالذات الطائرات المسيرة في تعقب ما تقول إنهم مقاتلو حزب العمال الكردستاني، فصارت تشن هجمات شبه يومية في أنحاء مختلفة من محافظة السليمانية، ومثلها في مخيم مخمور للاجئين الأكراد من تركيا في جنوب مدينة أربيل، وفي منطقة سنجار شمال غربي مدينة الموصل.
مطار زراعي قرب السليمانية قصفته الطائرات التركية (أرشيف)
السلطات التركية فرضت حظراً جوياً على مطار السليمانية المدني، متهمة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، مضيفة هجمات عدة على مواقع للاتحاد الكردستاني، واحدة طالت موقعاً لقوات الكوماندس التابعة للحزب، وأخرى في نيسان (أبريل) استهدفت مطار السليمانية المدني الدولي، مدعية وجود قائد قوات سوريا الديموقراطية مظلوم عبدي في المطار. الحزب رفض تلك الاتهامات معتبراً أن تركيا تستهدف كل ما هو كردي، وأن تعاون القوى الأمنية المقربة من الاتحاد الوطني هو مع قوات سوريا الديموقراطية، وبإشراف من القوى الدولية المحاربة للإرهاب.
ترتيب البيت الداخلي
القوى السياسية الكردية في الإقليم، بالذات الحزبان الرئيسيان، الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، أعادا بناء علاقاتهما الداخلية خلال هذا العام، متفقين من جديد على تيسير شؤون حكومة الإقليم، بعد استنكاف وزراء الاتحاد الوطني عن حضور جلساتها أشهراً عدة، واتفقا على إجراء انتخابات برلمانية في أوائل العام المقبل، مع وجود خلافات تفصيلية بشأن مقاعد الأقليات القومية التركمانية والآشورية في البرلمان.
الديموقراطي الكردستاني كان قد عقد مؤتمره الحزبي في أواخر العام الماضي، بعد 13 عاماً من آخر مؤتمر له، شهد صعوداً للعديد من القيادات الشابة، وبروزاً لرئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني.
بدوره عقد الاتحاد الوطني الكردستاني مؤتمره في أواخر شهر أيلول (سبتمبر)، تمكن فيه نجل زعيمه الراحل بافل طالباني من فرض حضوره على كامل الحزب، متجاوزاً العديد من القياديين السابقين، وابن عمه ومنافسه السابق لاهور شيخ جنكي.
إيران أيضاً
الهجمات العسكرية التي شنها الحرس الثوري الإيراني على مخيمات اللاجئين ومقار الأحزاب السياسية الكردية الإيرانية المعارضة في إقليم كردستان كانت جزءاً أساسياً من المشهد العام في الإقليم. فمنذ أواسط شهر حزيران (يونيو) بدأت إيران تلك الهجمات، وهددت بتكثيفها وحتى الاجتياح البري، لكن الحكومة المركزية العراقية تدخلت بوساطة عبر مسؤول الأمن القومي العراق قاسم الأعرجي الذي خاض جولات مكوكية بين بغداد وطهران وأربيل، تمكن في المحصلة من الوصول إلى اتفاق يقضي بإبعاد المعسكرات والمخيمات عن حدود إيران، وتقديم ضمانات بعدم التدخل في الشأن الداخلي الإيراني. وهو ما نفذته تفصيلاً، وتوقفت الهجمات الإيرانية منذ شهر آب (أغسطس).
لكن الهجمات على مناطق الإقليم من جانب القوى المسلحة المقربة من إيران عادت منذ أواسط شهر تشرين الأول (أكتوبر)، مترافقة مع تصاعد الحرب في غزة. فالجهات التي تسمي نفسها “قوى المقاومة العراقية” شنت عشرات الهجمات على قاعدة حرير العسكرية شمال مدينة أربيل، والتي تستضيف عناصر من الجيش الأميركي، ومثلها المركزي اللوجستي الأميركي بالقرب من مطار أربيل الدولي، والقنصلية الأميركية في أربيل، متعهدة الاستمرار في ذلك، كرد فعل على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل.