في سنة 1929 جال سيرك “بوش” المتنقل في المدن الفرنسية كافة ليقدم عرضا خاصا للراقصة ومدربة الأسود ماريا راسبوتين، ابنة غريغوري راسبوتين، الراهب الأسطوري الذي تمكن من السيطرة على العائلة المالكة في روسيا قبل مقتله في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1916. جاء في حملة السيرك الترويجية أنها “ابنة الراهب المجنون الذي أذهل روسيا والعالم”. الأجيال القادمة لم تعرف الرجل إلا من الأغنية الشهيرة التي حملت اسمه في سبعينات القرن الماضي، لفرقة “بوني أم” الألمانية، ولكن قبلها بسنوات طويلة، كان راسبوتين محط أنظار الصحافة الروسية والأوروبية، قال بعضهم: إنه مشعوذ شرير. وقال آخرون: إنه نصاب محترف. ووصفه بعضهم بالدجال الماهر الذي استعمل عباءة الدين للوصول إلى مطامحه السياسية، وأصبح الحاكم الفعلي لروسيا القيصرية في سنواتها الأخيرة.
كانت ماريا راسبوتين في الثامنة عشرة من عمرها يوم مقتل أبيها في أحد قصور مدينة سانت بطرسبورغ، ولم يكن من السهل أبدا أن تقف على خشبة المسرح، وترقص في عروض استعراضية عن حياته ومماته أمام ممثلين يلعبون دوره بشكل هزلي ومُهين. كان العرض يهدف إلى إضحاك الناس وتسليتهم مستعينا بوضع ماريا في صدارة العرض، وقبلت المشاركة به لتأمين لقمة العيش لها ولأولادها بعد نفيهم من روسيا إبان ثورة عام 1917. وفي مذكراتها قالت: إنها كانت تنهار بالبكاء في نهاية كل عرض. بعد تنحية القيصر نيقولا الثاني عن العرش، واختفاء بعض مجوهراته. استُجوبت ماريا راسبوتين لمعرفة مصير هذه المجوهرات، فقالت: إنها لا تعلم عنها شيئا بالمطلق.
بعد إقامتها المؤقتة في فرنسا انتقلت للعيش في الولايات المتحدة الأميركية، وفي سنواتها الأخيرة ادعت أنها تعلم الغيب، وتمتلك مهارات خارقة مثل مهارات أبيها الأسطورية، قبل وفاتها في مدينة لوس أنجليس سنة 1977. مر على وفاتها سنوات طويلة، وتصادف اليوم الذكرى 107 لمقتل أبيها، ولا يزال الرجل من أكثر شخصيات القرن العشرين جدلا وغموضا، وقد ظهر قبل ثلاث سنوات في فيلم “رجال الملك” البريطاني– الأميركي، ولعب دوره النجم ريس إيفانز.
من القرية إلى القصر
وُلِد غريغوري راسبوتين في الريف الروسي لعائلة فقيرة سنة 1869، وبدأ حياته راهبا متجولا معَ أنه لم يكن مرتبطا بالكنيسة الأرثذوكسية الروسية، وفي شتاء عام 1904 وصل إلى العاصمة سانت بطرسبورغ، وفيها تعرف إلى علية القوم من أمراء ونبلاء وعسكريين، أدخلوه إلى القصر الملكي، وعرفوه بالقيصر في نوفمبر/تشرين الثاني 1906. كان للقيصر ابن وحيد يعاني من فقر الدم المنجلي، ووعد راسبوتين بأن يخلصه منه ويشفيه. لا نعرف بالتحديد إن كان القيصر هو الذي طلب مساعدة راسبوتين أم إن الأخير عرض خدماته على الأسرة المالكة. بدأ عمله بالصلاة، وكان الطفل يتحسن بشكل ملحوظ كلما وضع راسبوتين يده على رأسه، ودعا له، ما جعل الإمبراطورة ألكسندرا تعتقد– بل تجزم– أنه قادر على صُنْع المعجزات. وهذا أمر غريب لأن ألكسندرا كانت سيدة مثقفة ومتعلمة على يد أفضل مدرسي أوروبا في قصر جدتها الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا، ومع ذلك يبدو أن خوف الأم على ولدها وتعلقها بالأمل الذي أعطاه إياها راسبوتين كان فوق أي اعتبار أو منطق. بدأت تصطحبه معها أينما ذهبت، وأصبح لا يفارقها لا في الليل ولا في النهار، وسرت إشاعة في المجتمع الروسي أنها كانت على علاقة غير شرعية به، ولكن كل هذا الكلام لم يُبعد ألكسندرا عن راسبوتين، وكان كل همها شفاء ابنها من مرضه المُزمِن على يديه. أما عن سبب تحسن وضع الطفل فهو يعود إلى أوامر راسبوتين بمنع دواء الأسبرين عنه لأنه كان يعلم أنه مضاد للتخثر، وهي معلومة لم تكن رائجة يومها، ولم تُعرَف على نطاق واسع إلا في خمسينات القرن العشرين.
لتأمين دخوله السريع إلى القصر وخروجه منه بشكل سلس ومريح، عينه القيصر مُشعلا لأنوار الأجنحة الملكية الخاصة، ومنها طبعا حجرة الأطفال. إحدى المربيات اعترضت على دخول رجل غريب إلى غرف البنات وهن في ثياب النوم، فغضبت منها الإمبراطورة وطردتها، ولاقت مربية ثانية المصير نفسه عندما اتهمت راسبوتين بالتعدي عليها واغتصابها، فمُنِعت من دخول القصر. تصرفاته المشينة خرجت إلى العلن، وباتت على كل لسان في سانت بطرسبورغ، وتناقل الناس كيف صار راسبوتين يطلب مكافآت مالية أو جنسية مقابل الصلوات والدعوات، ما جعل الكنيسة الأرثوذكسية تطالب بالتحقيق معه رسميا بتهمة “الهرطقة”.
جهاز الأمن الروسي كان يكره راسبوتين، ويعمل على إسقاطه، وكذلك رئيس الحكومة بيوتر ستوليبين الذي رجا القيصر أن يبعده عن القصر والعائلة المالكة، ولكن دون أي جدوى بسبب قناعة القيصر التامة به، وإيمان الإمبراطورة بقدراته الشفائية. وقد وصل الأمر بأحد أعضاء مجلس الدوما، فلاديمير بوريشكيفتش، إلى القول علنا في إحدى الجلسات إن وزراء روسيا قد أصبحوا “دمى في يد راسبوتين، يحركهم كيفما شاء ومتى شاء”. وفي 14 يونيو/حزيران 1914 تعرض راسبوتين لمحاولة اغتيال على يد امرأة ريفية طعنته في بطنه، وقد قيل وقتها إنها كانت تعمل لصالح أحد أعدائه من الكهنة.
جريمة الاغتيال
وهنا قرر بعض النبلاء التخلص من راسبوتين، وعدوا بقاءه في القصر تهديدا لنفوذهم ومكانتهم في المجتمع الروسي ولمستقبل الإمبراطورية الروسية كلها. تقدمهم الدوق ديمتري بافلوفيتش، والأمير فيلكس يوسوبوف، وكان ذلك في أعقاب انشغال القيصر بمعارك الحرب العالمية الأولى، وتركه شؤون الدولة كلها في يد راسبوتين والإمبراطورة. دعوه إلى قصر يوسوبوف يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 1916، روسيا يومها كانت تتبع تقويما مختلفا عن تقويم اليوم، وذلك يفسر أن بعض المراجع التاريخية تقول إن حادثة الاغتيال جرت في 17 ديسمبر/كانون الأول، وليس في الثلاثين من الشهر نفسه، قدموا له الشاي مع الحلوى التي دسوا فيها السم، ودخل راسبوتين القصر بثقة مطلقة، وبدأ بتناول الحلوى والشاي، ولكن السم لم يؤثر فيه مطلقا، فقدموا له كأسا من النبيذ المسموم أيضا، ولكنه لم يترك فيه قطرة، وتناول بعدها كأسين إضافيتين. وبعد فشل هذه الأساليب كلها أخرج أحد المتآمرين مسدسا، وأطلق النار على راسبوتين بعد دعوته لإلقاء صلاته الأخيرة.
أصابته الرصاصة في الصدر، وسقط الرجل في بركة كبيرة من الدماء. ظن المتآمرون أنه مات، وعندما اقتربوا منه للتأكد من ذلك نهض، وأمسك بعنق أحدهم لقتله. خرجوا من الغرفة مذعورين، ولحقهم راسبوتين الملطخ بدمائه إلى حديقة القصر وهو يلعنهم ويتوعد بتصفيتهم جميعا، فأطلق أحدهم عيارا ناريا ثانيا أصابه في الرأس، ليسقط في بركة دم ثانية وسط ثلج الحديقة. لفوه في قطعة قماش كبيرة، ورموا جثته في النهر، وقيل بعدها إنه مات غرقا، وليس بسبب السم أو الرصاص. بعد أيام معدودة عُثِر على جثته تحت الجليد، وأُجريت له جنازة خاصة بحضور أفراد العائلة المالكة. وبعد تنحية نقولا الثاني عن العرش في مارس/آذار 1917 فتح الثوار قبر راسبوتين، وأحرقوا رفاته لكي لا يصبح ضريحه مزارا رمزيا لأنصار العهد الملكي البائد. حملوه أوزار السنوات الأخيرة من عهد القيصر وأخطاءها كلها، من فقر وفساد وهزائم عسكرية، ولكن هناك من قال أيضا إنه خدم الثوار من حيث لا يدري، فلولا راسبوتين لما فسد القصر الملكي، ولولا فساده لما كانت الثورة البلشفية، ولما كان فلاديمير لينين.