احتشد الآلاف في ساحة “لا ريبوبليك” الباريسية، مساء أمس الخميس، دعماً للفلسطينيين، مدنيين وأطفالاً ونساء ومسعفين وكوادر إغاثة، الذين يُقتلون بشكل ممنهج في غزة بالقصف الإسرائيلي المتواصل، ويعانون الحصار بالمحروقات ومياه الشرب والمواد الغذائية والطبية، ويقتلون حتى كنازحين ومصابين في المستشفيات. صور الساحة مبهرة، صادقة، مشحونة بعواطف أصيلة بقدر عدد الأعلام الفلسطينية المرفرفة، ولو لساعة واحدة، في السماء الفرنسية، بحرية طال انتظارها كأضعف الإيمان في ظل العجز عن المساعدة المباشرة أو السياسية أو تغيير أوضاع  المنكوبين.

هي التظاهرة الرقم 65، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لكنها الأولى التي حصلت على الإذن بالتنظيم من السلطات الفرنسية، فكان لها طَعم مغاير. لم يكن لوسائل الإعلام الفرنسية كلها، بيمينها ويسارها، مفرّ من تغطيتها، ومن دون شيطنة، بل بشيء من التعاطف مع حيازة هؤلاء الآلاف (ممثلين لآلاف آخرين) أخيراً حقهم المشروع في التعبير والاحتجاج، وهي القيم الغالية على قلوب الفرنسيين رغم كل شيء، ورغم السردية الإسرائيلية السائدة، والتوتر العام والتخوف من انفلات أمني دأب الخطاب الرسمي على التركيز عليه وسار فيه الكثير من الإعلام. حتى الإعلام العام، لم يكتفِ بالسياق الخبري والتقريري في سياق التظاهرة الأخيرة.

شبكة “فرانس24” (الممولة من دافعي الضرائب)، نشرت مقابلات مع فلسطينيين انضموا إلى “ساحة الجمهورية”، وبعضهم يحمل الجنسية الفرنسية. أعطتهم منبراً واسعاً للحديث عن مخاوفهم على ذويهم في غزة، قلقهم، حزنهم، مظلوميتهم، وإحساسهم بالحصار هم أيضاً، وفي فرنسا، حيث ولدوا أو هاجروا منذ سنوات طويلة وهم يعتبرون هذا المكان وطنهم. الأصوات بدأت تعلو وتصل، رغم هيمنة وجهة النظر الإسرائيلية على غالبية الإعلام الفرنسي (بلغت أوجها في جدية الأخذ بمزاعم أن قصف مستشفى “المعمداني” لم يأت من إسرائيل)، ورغم أن سردية القضية الفلسطينية، التاريخية والراهنة، ما زالت محصورة في هوامش المشهد وبعض صحف النخبة ودوائر اليسار ومجتمعه المدني… فيما السوشال ميديا هي التي تعجّ بالكلام والكلام المضاد، لكن دائماً تحت طائلة حملات طاردة ومطاردة الكترونية وربما ملاحقة قانونية.

شارك في تظاهرة الخميس، متضامنون ملتهبون بالحماسة، من كل فئة ولون، فرنسيين ومقيمين متخففين من الخوف من التوقيف الذي تعرض له المئات من قبل، والتحقيق، وحتى الردع بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع… وهو الخوف الذي هيمن على التظاهرات السابقة في مدن فرنسية عديدة، ومنع العديد من المتعاطفين من المشاركة، لا سيما بعدما تحدث وزير الداخلية جيرالد دارمانان، عن إمكانية تعرّض الأفراد لسحب تراخيص إقاماتهم إن ارتكبوا انتهاكات/جرائم معادية للسامية، ومع تفسير التظاهر تضامناً مع الفلسطينيين كأحد أشكال هذه الانتهاكات، إضافة إلى “الخطر على النظام العام”. هذا الخوف/التخويف، انقلب لدى كثر، وبينهم لبنانيون، إلى رغبة بالمقاومة الحقوقية، إذ ينوي بعض من تلقوا إيصالات بغرامات لمشاركتهم في تظاهرات سابقة، أن ينقضوها عبر محامين، باعتبارها غير قانونية، متسلحين بالمطالعة القانونية والدستورية التي رافقت قرار رفع الحظر، ولو أنه رفعٌ دام ساعة واحدة. ساعة أمل. والدم الفلسطيني المُسال، استطاع النفاذ، ولو بشكل محدود، عبر هذه الشبكة المعقدة من الهواجس والقوانين والقرارات. هدير دماء الأبرياء مرشّح لمساحة استماع أوسع هنا، طالما أصبحت القضية قضية حريات فرنسية… ولأن المظلوم لا يموت، ليس تماماً.

النكهة المختلفة للتظاهرة الأخيرة تأتي من كونها شكلت انتصاراً، ولو محدوداً وصغيراً لحرية التعبير والتجمع في فرنسا، لكنه انتصار قابل للبناء عليه وتوسيعه، بعدما دانت جماعات حقوقية عديدة الحظر الفرنسي على الاحتجاجات، والذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “اعتداء خطير وغير متناسب على الحق في التظاهر”… حتى وصلت القضية إلى أعلى محكمة إدارية في فرنسا، مجلس الدولة، الذي قضى، الأربعاء، بأنه لا يمكن فرض حظر الاحتجاج “بشكل منهجي” ويجب اتخاذ قرار بشأنه على أساس “كل حالة على حدة”، لا سيما “التهديد بالإخلال بالنظام العام” الذي رفعته وزارة الداخلية كمبرر للحظر في البلد الذي يضم النسبة الأكبر من اليهود في أوروبا (نحو 500 ألف شخص)، فضلاً عن نحو 6 ملايين مسلم (حوالى 9% من السكان).

وفي قرار تلا القرار الأول مباشرة، قالت المحكمة: “تم تعليق تنفيذ أوامر مدير الشرطة بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر لأنها تحظر التجمع المخطط له بين الساعة السابعة مساء والثامنة مساء” من يوم الخميس. واعتبرت أن “احترام حرية التظاهر وحرية التعبير، التي لها طابع الحريات الأساسية (…) يجب أن يتوافق مع المطلب الدستوري لحماية النظام العام”. وأضافت: “لا يترتب على التعليمات، ولا سيما من المذكرة الصادرة (بخصوص) المظاهرة الحالية، أن التجمع المخطط له سيشكل خطراً خاصاً للعنف ضد مجموعات أخرى أو قوى النظام”. وبالتالي فإن المراسيم الإقليمية المتنازع عليها تشكل “اعتداءً خطيراً وغير قانوني بشكل واضح على حرية التظاهر”، كما خلصت المحكمة.

هكذا، لم يكن أمام دارمانان، سوى سحب الشرطة للخلف، في “الجمهورية”، من السابعة وحتى الثامنة مساء، والقول بأنه يتمنى ألا تتحول تظاهرة مناصرة لفلسطين إلى تظاهرة كراهية لليهود… وهو ما لم يحصل على الأرض، بوعي جماعي لافت من نحو أربعة آلاف متظاهر رفعوا الصوت الحق من أجل غزة النازفة.