رجال غزة “الإرهابيين” لم يتركوا طرفاً في المنطقة، بل وخارجها، من دون أن يقضوا مضجعه بالأسئلة المحرجة التي وضعوها أمامه. النخب الأوروبية الحاكمة التي هبت للتضامن مع إسرائيل في وجه “إرهاب” غزة، وضعوها أمام شارعها الذي حُظر عليه التظاهر تأييداً لفلسطين. والبيت الأبيض الذي أرسل أساطيله لنجدة إسرائيل، وضعته غزة أمام مشهد غير مألوف، حين أقدم مسؤولون في وزارة الخارجية على الإستقالة إحتجاجاً على الدعم غير المشروط  لحكومة نتنياهو. روسيا وجدت الناطقة بإسم خارجيتها في غزة دليلاً حسياً على فشل السياسة الأميركية التي ادعى يوماً باراك أوباما بأنها تجعل العالم أكثر إستقراراً.

في المنطقة ما اعتادوا حرجاً أمام الأسئلة الصعبة، بل هم يبحثون دائماً عن الزمان والمكان المناسبين للخروج من أشد المواقف حرجاً. البعض وجد، الأربعاء، الزمان والشكل المناسبين للرد على “غطرسة العدو الإسرائيلي”، واشتبك مع العدو المتمترس في السفارة الأميركية في ضاحية بيروت الشمالية ـــ عوكر.  آخرون اعتقدوا أن إلغاء لقاء رباعي للرئيس الأميركي يكفي للخروج من الإحراج، والبعض يبدو أنه سيجد في إلغاء فكرة عقد مؤتمر دولي بشأن الأسرى الإسرائيليين تنقذه من الموقف الحرج، إن كان يعتبره كذلك.

حرب غزة وضعت إسرائيل أمام أسئلة محرجة، بل وجودية لم تصطدم بها منذ وجودها قبل 75 عاماً، على ما يقولون هم. وقد يكون السؤال المتعلق بتأثير هذه الحرب على العلاقات مع روسيا، من بين أهم الأسئلة التي طرحتها. فقد جعلت الإعلام الإسرائيلي يناقش فرضية قد لا يتصورها خيال سوي، تقول بإمكانية نشوب حرب إسرائيلية روسية في الشرق الأوسط. كما رفعت مستوى كراهية الروس لإسرائيل، وأنعشت العداء للسامية “المتوحش” وسط المؤيدين الروس للحرب على أوكرانيا، على ما يقول بعض الإعلام الروسي المعارض.

  في كل المفاصل الحاسمة في تاريخ إسرائيل، لم يسبق أن شكك الإسرائيليون بمصير حرية إعلامهم، التي يتباهون بها ويعتبرونها إحدى ركائز نظامهم السياسي. لكن ما اجترحه رجال غزة جعل موقع Zahav الإسرائيلي الناطق بالروسية ينشر في باب “الرأي” في 16 الجاري نصاً بعنوان “هل تبقى حرة وسائل الإعلام الإسرائيلية”.

استهل الكاتب Alex Tenzer نصه بوصف 7 الجاري باليوم “الأكثر سواداً في تاريخ إسرائيل منذ 75 عاماً”. بعد هذا التاريخ، غرقت إسرائيل بالفوضى، نظام الأمن بدا مشلولاً: لم يكن يعرف الجيش كيف يتعامل مع سيل أجراس هواتف الناس الذين فقدوا الإتصال بأقاربهم. ويقول بأن صحافيي قناتي تلفزة  لا يزالون حتى الآن يملأون الفراغ الذي تسببت به الحكومة. ويرى الكاتب أن هؤلاء أظهروا مرة أخرى أهمية وسائل الإعلام المستقلة ودورها الكبير في المجتمع.

يحذر الكاتب من مشروع إصلاح وسائل الإعلام الإسرائيلية المستقلة الذي تتبناه الحكومة ممثلة بوزير الإتصالات شلومو قرعي، ويهدف إلى إنتزاع إستقلالية وسائل الإعلام التجارية الخاصة الستقلة، “التي تتمتع بمكانة رفيعة في العالم”.

يقول الكاتب بأن الإعلام الإسرائيلي لم يكن دائما حراً ومستقلاً، “كما هو عليه اليوم” ( لكنه يشير إلى أن منظمة “مراسلون بلا حدود” صنفت أخيراً الإعلام الإسرائيلي في المرتبة 97 بين الصحافة الحرة). فقد مرّ وقت خلال حرب “يوم الغفران” لم يكن الصحافيون الإسرائيليون يجرؤون فيه على التدخل في القضايا الأمنية، معتبرين أن المؤسسة السياسية والعسكرية معصومة من الخطأ. ويتحدث عن إجتماع لقادة وسائل الإعلام الإسرائيلي العام 1974 لمناقشة نتائج ودروس تلك الحرب “الأكثر صعوبة وصدمة لشعبنا”.

يوجز الكاتب دروس تلك الحرب لوسائل الإعلام الإسرائيلية بالقول “حرب الغفران كانت بمثابة يوم القيامة” لهذه الوسائل. ويذكر سياسيي إسرائيل اليوم الذين لا يعجبهم الإعلام المستقل، بقول الرئيس الأميركي الثالث  توماس جيفرسون بأنه لو وضع أمام خيارين: حكومة بلا صحافة حرة، وصحافة حرة بلا حكومة، لكان اختار الصيغة الثانية.

موقع Detaly الإسرائيلي الناطق بالروسية نشر في 15 الجاري نصاً ناقش فيه الكاتب Sergey Auslender فرضية نشوب حرب روسية إسرائيلية في الشرق الأوسط. عنون الكاتب نصه “روسيا ــــ صديق عدوي”، وأرفقه بآخر ثانوي طويل “إحتمال وقوع صدام عسكري مباشر بين إسرائيل وروسيا في المنطقة لا يبدو غير معقول. إلى ماذا سيؤدي؟”.

استهل الكاتب نصه بالإشارة إلى إعلان حماس تقديرها لموقف بوتين والجهود التي تبذلها موسكو لتسوية الوضع في غزة. كما أشار إلى ما نشرته الصحيفة الروسية KP من مقارنة بين ما تنشره إسرائيل عن “فظائع وجرائم” حماس بحق الإسرائيليين ، وبين ما كانت تنشره أوكرانيا عن فظائع وجرائم روسيا بحق الأوكران. ويخلص من الإستشهادين إلى أن روسيا ليست صديقة إسرائيل ولا شريكتها، بل هي صديقة “عدونا” وبالتالي هي “عدونا”.

يقول الكاتب أن لا وقت الآن للحديث عن كيفية تطور العلاقات مع موسكو. لكن، وأخذاً بالإعتبار علاقة روسيا “الأكثر من وثيقة” مع إيران ـــ “محرك الدمى الرئيسي” في هجوم حماس الذي لم تثبت حتى الآن مشاركة روسيا فيه، “علينا أن نتخذ قرارا بشأن العلاقات مع نظام بوتين، وكيف ستكون عليه، وهل ستكون إجمالاً؟”. وأخذاً بالإعتبار تردد إسرائيل الشديد بكل ما يخص العلاقات الروسية الإسرائيلية، يرى صعوبة في الإجابة على سؤاله الآن. لكن احتمال حدوث صدام عسكري مباشر بين إسرائيل وروسيا في المنطقة الآن لا يبدو برأيه غير معقول، وسيحاول تخمين ما سيفضي إليه.

يستطرد الكاتب في الحديث عن تفاصيل المواجهة التي يفترضها مع القوات الروسية في سوريا. ويختصر هذه القوات إلى القواعد الروسية الثلاثة في سوريا مع أسطول بحر قزوين. ويقول أنه، في حال مثل هذه المواجهة العسكرية، يمكن النقاش فقط في المدة التي يحتاجها الطيران العسكري الإسرائيلي لتدمير “كل هذه القواعد”. وينفي عند هذا كلياً إمكانية إجتياح إسرائيلي بري لسوريا. ويقول بأن كل هذا لا يأخذ بالحسبان إمكانيات القيادة المركزية الأميركية، مع العلم أن هذا يبدو للأميركيين سيناريو فيلم عن يوم القيامة، أخذاً بالإعتبار أن روسيا هي الدولة النووية الأكبر في العالم.

ينتهي الكاتب إلى القول بأن الصراع المسلح بين إسرائيل وروسيا لا يزال ضئيل الإحتمال حتى الآن(على الرغم من أنه لا يمكن استبعاده كلياً). لكن الدعم الصريح الذي تقدمه موسكو “للإرهابيين” الذين نفذوا مجزرة 7 تشرين الأول/أكتوبر يجب أن يدفع إسرائيل إلى إعادة النظر في علاقاتها مع هذا البلد.

السؤال الآخر، وليس الأخير بالتأكيد، الذي طرحته حرب غزة على إسرائيل يتعلق بمصير نتنياهو السياسي وحكومته. موقع الخدمة الروسية في إذاعة فرنسا الدولية RFI تشر في 18 الجاري مقابلة مع Ksenia Svetlova، عضو الكنيست السابق وصاحبة منصة تلغرام Syndrome de l’Est. عنون الموقع المقابلة بالقول” Ksenia Svetlova: كانت خاطئة إستراتيجية وسياسة جميع حكومات نتنياهو”.

تقول Svetlova أن ثمة إنطباعاً بأن حكومة إسرائيل لا تزال تحت تأثير الصدمة، فهي لم تبدأ حتى الآن العمل في تلبية حاجات المتضررين مما حدث، من مستشفيات ومأوى وسواه.

وتشير البرلمانية السابقة إلى أن نتنياهو يلوح بالسلاح ويتحدث عن “النصر العسكري العظيم”، وإن كان الجميع يعرف أن النصر على “تنظيم إرهابي” ــــ مفهوم صعب. وقال في الكنيست أن ثمة أسئلة كثيرة،”سنرد عليها بعد الحرب”. لكن الحرب، برأيها، قد تطول أشهر، وربما أكثر، و”ليس من الواضح كيف ستتطور”.

وبعد أن تنفي نفيا قاطعاً إمكانية بقاء حكومة نتنياهو بعد الحرب، تقول Svetlova أن من الواضح الآن أن نتنياهو قد أصبح “جثة سياسية”.