خمسة وتسعون يوماً من الحرب على غزة مرَّت وكأنّها خمسة وسبعين عاماً، هي عمر الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ فمحصلة ما جرى في تلك الأيام الخوالي لا يقلّ عمّا جرى في تلك السنوات العجاف، بعد أن تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 22 ألفًا أكثرهم من النساء والأطفال وكلهم من المدنيين.
نكبة جديدة عاشها الفلسطينيون وما زالوا، ولكنها حملت في طياتها انتصاراً ربما لم يتحقّق في النكبة الأولى ولا على مدار سنوات الصراع سالفة الذكر. لا يمكن الحديث عن الرابح والخاسر في معركة ما زالت رحاها تدور ولكن هناك مؤشرات مؤكّده تُرجح ميزان المقاومة مقابل آلة الحرب الإسرائيلية التي فشلت في تحقيق أيًا من أهدافها المعلنه.
خسارة إسرائيل كانت أكبر من أن تُصدّقها القيادات السياسية والعسكرية داخل تل أبيب، ولعلّ هذا سبب استمرار العملية البرّية التي خرجت منها إسرائيل صفر اليدين من دون أن تقضي على “حماس” أو أنّ تُحرر أسراها، وهذا ما دفع حكومة الحرب الإسرائيلية أن تُعطي الضوء الأخضر لرئيس الموساد لعقد صفقة تبادل للأسرى مع حركات المقاومة.
والملاحظة المهمّة في سلوك إسرائيل هو الفشل في تحرير أسراها، فضلًا عن القضاء على “حماس”. فشلت حتى في تحرير أسير واحد، ولذلك اتجهت للجلوس على طاولة المفاوضات مع خصمها الذي توعدت القضاء عليه؛ ورغم ذلك تمسّكت “حماس” بشروطها المعلنه التي تقضي بوقف إطلاق النار وتبييض السجون الإسرائيلية من كل الأسرى الفلسطينيين، وهنا عاد رئيس الموساد إلى بلاده من دون أن يُحقّق شيئاً، بعد أن التقى الوسطاء في مصر وقطر.
فشل إسرائيل في تحرير أسراها وفي إنجاز صفقة تبادل أسرى، مؤشر قوي على فشلها بالمعركة العسكرية في غزة، رغم حجم الدمار الذي ضرب القطاع والضحايا الذين سقطوا في المعركة وما زالوا، وهو ما دفع تل أبيب إلى استخدام مزيد من القوة والبطش، ولا تعرف غيرها، فقامت باستهداف قيادات “حماس” في لبنان، حيث قتلت نائب رئيس المكتب السياسي، صالح العاروري. والسؤال هنا، لماذا تتجّه إسرائيل إلى توسيع دائرة الحرب وعلامَ يدلّ ذلك؟
مؤشر ذلك أنّها فشلت عسكرياً وسياسياً؛ فهي لم تحقق انجازاً عسكرياً بعد الغزو البري وقبله، كما أنّها فشلت في عقد صفقة تبادل للأسرى بشروطها، وبالتالي لجأت إلى خيارات القوة الأخرى بإستهداف قيادات “حماس” في الخارج، وتبعات ذلك قد تكون خطيرة على إسرائيل والمنطقة، وقد تصبّ في صالح حركات المقاومة إذا استمرت إسرائيل في سلوكها.
فشل العالم في إرغام إسرائيل على القبول بالأمر الواقع أو لجم سلوكها المتطرّف، خصوصاً أنّها ما زالت تُصدّر فشلها لهذا العالم، لا سيما للحلفاء، فتحاول إشعال الحدود الشمالية من خلال الإعتداء المتكرّر على السيادة اللبنانية وكسر قواعد الإشتباك بينها وبين “حزب الله”، وهو ما قد يدفع “حماس” لمواجهة أهدافها خارج إسرائيل، وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى اتساع نطاق المعركة وتعقّد الصراع.
ولذلك يُفهم من سلوك اسرائيل أنّ لجوءها إلى اغتيال قيادات “حماس” في الخارج هو دليل ضعف، حيث افتقدت الهدف الحقيقي وهو مواجهة المقاومة في غزة، فقامت بضرب أهدافها في دول عربية مجاورة، وهو ما سوف تكون له تبعات في إطالة أمد الصراع والحرب معاً، وهو ما سوف تتضرّر منه إسرائيل على وجه التحديد.
تريد إسرائيل التغطية على فشلها من خلال توسيع دائرة الحرب ودخول شركاء فيها، وبالتالي استدعاء واشنطن للدفاع عنها. إسرائيل باتت أمام حقيقة لا يمكن الهروب منها، وهي الخضوع لشروط “حماس” في ما يتعلق بتبادل الأسرى، وهي ما ترفضه أو لا تستوعبه على الأقل حتى الآن، وبالتالي تُريد إعادة ترتيب أوراق الحرب والصراع من جديد.
القاهرة أبلغت تل أبيب أنّها جمّدت دورها كوسيط بعد اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس في لبنان، لأنّها تستشعر بأنّ تل أبيب تسير في منزلق توسيع الحرب لدخول شركاء لها قد يُساعدونها في مواجهة “حماس” التي ما زالت تُقاتل بكل قوة، وهنا لا بدّ للمجتمع الدولي من أنّ يتحمّل مسؤوليته في ضبط السلوك الإسرائيلي المتطرّف.
اتساع دائرة الحرب سوف يكون لصالح الفلسطينيين وقضيتهم، والتي بات حلّها أقرب من أي وقت مضى، بعد أن فرضت المقاومة شروطها على الأقل حتى الآن. التفاوض سوف يكون من آخر نقطة قوة حققتها المقاومة، وهذا ما سبق وأطلقتُ عليه في مقال سابق “المسافة صفر” في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
إسرائيل لم تُدرك حجم التحولات في الداخل الفلسطيني ولا طبيعة المنطقة العربية التي باتت أقوى في مواجهة أي خطر يتهدّدها أو يأتي على الحق الفلسطيني؛ ولذلك الاتفاق على الوقوف أمام إسرائيل حتى لا تكون هناك نكبة أخرى، وهو ما رأته إسرائيل، ولكنها لم تُدركه وما زالت تُكابر من أجل عدم تصديقة.
لا حلول أمام إسرائيل غير الاعتراف بالدولة الفلسطينية والقبول بقوة الفلسطينيين وحقهم في الوقت نفسه؛ فحركات المقاومة باتت أقوى من السابق، كما باتت قادرة على ردع إسرائيل والاشتباك معها رغم قوة الأخيرة العسكرية، ولعلّ الصراع الدائر حالياً شاهد عيان على هذه المعادلة.
كلما اتسعت دائرة الصراع والحرب كلما خسرت إسرائيل أكثر، صحيح هذا سوف يؤثر على المنطقة العربية بأكملها، ولكن الخاسر الأكبر هو إسرائيل، فعلى حلفاء تل أبيب أنّ يُعيدوا ضبط سلوكها إذا أرادوا حمايتها من مصيرها المحتوم، حماية محدّدة الوقت.
إسرائيل يُمكنها وقف نزيف خسائرها العسكرية والبشرية من خلال عقد صفقة تبادل للأسرى ولكن بشروط “حماس”، حتى تنتهي مغامرتها البرية في غزة، وأن تفرّق ما بين ضرورة تجرّع الدواء المرّ وما بين تجرّع الموت كل يوم في القطاع، فأيهما تُريد إسرائيل؟.