لا تصعب الموافقة على استنتاج الكثيرين بأن تلك الحرب التي استمرّت 12 يوماً، سوف تكون لها انعكاسات استراتيجية على المنطقة كلّها. كانت تلك الحرب عن بعد عموماً، بين إسرائيل وإيران، ثمّ حُسِمت من قبل الولايات المتحدة وإدارة ترامب بقصف استعراضي خاطف لمواقع تخصيب اليورانيوم الأكثر أهمية وتطوّراً، برحلة صامتة دارت أكثر من ربع محيط الكرة الأرضية.
يقول ترامب إن العملية «محت» البرنامج النووي الإيراني، وتنكر إيران ذلك يؤيّدها تقرير أحد الأجهزة الأمنية الأمريكية العديدة. في حين لا تتوفّر معلومات حول السبب» الثاني للحرب، وهو الصواريخ، سلاح إيران الفتّاك والقادر على الإيذاء، وعلى الوصول إلى دول المنطقة كلّها – وليس إسرائيل وحسب- ما لم يكن إلى أوروبا أيضاً.
السلاح النووي إرهاب افتراضي ومستقبلي، على الرغم من قصر سبيل إيران إليه بعد وصولها إلى نسبة التخصيب 60%، التي يكون الارتفاع بها إلى النسبة المطلوبة سلساً يسيراً وبأسرع مما يظنّ كثيرون. في حين أن الصواريخ الإيرانية ناضجة تتطوّر بكفاءات محلية، وبمواصفات مرعبة.
رغم ذلك كلّه، كان سلاح السلطة الإيرانية الفتّاك في مكانٍ آخر، لدى أطراف «محور المقاومة»، هنا كانت الخسارة الأكبر التي تزعزعت بقوّة، ليس بالضربات دائماً، بل بذاتها من جهة، وبانقطاع طرق إمدادها من جهة أخرى. ذلك الأمر مريح بكلّ عناصره، لأنّه يمكن أن يجعل من إسرائيل طرفاً رئيسياً في المنطقة، بكلّ العدوانية التي تختزنها وتمارسها، وها هي غزّة أمامنا ضحيّة ممزّقة.
حين نقوم بترتيب أطراف «محور المقاومة»، الذي تقوده إيران كما كان، من الأقرب إلى الأبعد عنها نقول إنها: الحشد الشعبي العراقي، وسوريا الأسد، وحزب الله، وحماس والجهاد الفلسطينيتان، والحوثيون في اليمن. بعضها انتهى، والآخر تهلهل وضعف، والثالث صمت ـ أو تكلّم بحياء وتردّد – أثناء هذه الحرب.
«محور المقاومة» كان سلاح السلطة الإيرانية الفتّاك، وكانت الخسارة الأكبر التي تزعزعت بقوّة، ليس بالضربات دائماً، بل بذاتها من جهة، وبانقطاع طرق إمدادها من جهة أخرى
كان الحشد العراقي هو الصامت الأبرز، وهو الأقرب إلى ميدان المعركة، والقادر على الوصول، مثل إدارته في طهران، إلى إسرائيل بصواريخه ومسيّراته أيضاً، أو على الأقل إلى القواعد الأمريكية حوله في العراق وسوريا. لم تسمح له المعادلة السياسية والمخاطر الملموسة بغير ذلك الموقف الغريب، بسبب وضع العراق القلق حالياً وقبيل الانتخابات، وتنامي قدرة وتفويض رئيس الحكومة السوداني ونهجه الأقرب إلى أن يكون «عراقياً» غير حبيس في طائفته نسبياً. سوف تدفع هذه التجربة ونتائجها مزاج قوى الحشد بدورها نحو العراق، ويكون لها أثرها الذي لا يمكن تحديده – بعدُ – على الانتخابات المقبلة… وهي غالباً ستكون أكثر جنوحاً إلى السلم، وإلى التركيز على العراق وشجونه، وها هو المرجع السيستاني، يعود إلى تكرار المطالبة بأن يكون السلاح محتَكراً للدولة وحدها.
أمّا النظام السوريّ «درّة التاج»، فقد سبق الحرب إلى الهرب والانحلال والتفكك. بذلك لم تخسر إيران موقعاً – دولةً- مهمّة لها منسجمة ومنضبطة منذ الثورة الإسلامية التي قادها الخميني في عام 1979 وحسب، بل إنها تخلت عنه بنفسها وتركته أعزلَ مكشوفاً أمام القوى التي زحفت من إدلب شمالاً إلى حلب فدمشق، من دون أية مقاومة عمليّاً. وقد كانت موجودة بأشكال شتّى هناك، ابتداءً من الناظم الأهمّ الذي كان الحرس الثوري أو فيلق القدس خصوصاً، منذ صمّم قاسم سليماني تلك العلاقة تحت عنوان الدفاع عن الصديق منذ أوائل الثورة السورية عام 2011، وخصوصا منذ 2012. تحت تلك المظلّة والقيادة، أشرف الحرس الثوري على جسم الجيش السوري كلّه، وأعاد «تفصيله» بشكل ملائم له، مميّزاً بين قوى ذات علاقة عضوية كالحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وميليشيات مستوردة من أفغانستان وباكستان وغيرهما، عميقة الصلة بتركيبها الطائفي- الشيعي. وحين عايش الإيرانيون تفسّخ النظام في الأعوام الأخيرة، ملّوا منه واحتقروه وعافته نفوسهم، بحيث سبقوا الزاحفين من إدلب بفترة بإخلاء الطريق أمامهم والانسحاب بشكل منتظم وسريع قبل التخلّي عن عاصمتهم الأكثر أهميّة في البوكمال على الحدود مع العراق، ممرّ معظم ما يرد من إيران إلى شرق المتوسّط، وربّما إلى أبعد من ذلك. كان سقوط نظام الأسد الحلقة الأكثر ضجيجاً في هذا المسار والسياق، ما أفسح الطريق لنتنياهو ليحاول ادّعاء الفضل بذلك السقوط، واعتباره قلب « التغيير في الشرق الأوسط».. بالمعنى الاستراتيجي، كان سقوط النظام من أهمّ مقدّمات الحرب الإيرانية- الإسرائيلية، ثمّ الأمريكية.
كان هنالك معنى ومغزى أيضاً لابتداء ذلك الزحف إلى دمشق، بعد ساعات من توقيع حزب الله على وقف إطلاق النار في 26/11/2024، وبشروط تعني تراجع الحزب لمصلحة تقدّم الدولة اللبنانية أيضاً، قبل انسحابه من سوريا، بعد أن كان القوة الضاربة الإيرانية الأهمّ على كلّ المستويات، بحيث كان أمينه العام عنصراً أساسياً في صياغة وتنفيذ سياسات المرشد، مع قواته وأسلحته الضاربة في كلّ مكان، من دون استثناء: من لبنان وسوريا بالوجود المادي الشامل الفاعل، واليمن وفلسطين، بالدعم والإمداد والتدريب والخبرات المتنوعة، حتى أوروبا والأمريكتين وافريقيا أيضاً. لم يتوانَ حزب الله عن مدّ حماس بالعون مباشرة في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، بإطلاق الصواريخ الموجّهة وقذائف المدفعية على مزارع شبعا. والتزم بحصر الحرب في فصولها الأولى بجنوب الليطاني، حتى امتدّت إلى بيروت وبعلبك وكلّ لبنان في ما بعد. وكان أكثر مفاصلها أهميةً وإثارةً يوم انفجارات البيجر، الذي حققت إسرائيل به اختراقاً هائلاً في جسم حزب الله وقتلت قيادييه، مما كان له أثر معنوي ومادي كبير على الصراع..
استمرّت الحرب أكثر من عام، مستنزفةً قوى حزب الله، وكاشفة له في أجواء السياسة اللبنانية، مع تدخّل لافت فرنسي وأمريكي، نجح في فرض إطلاق النار الذي أشرنا إليه أعلاه، بعد اضطرار الحزب إلى التسليم بما كان. ورغم بقاء الكثير من قدراته، إلّا أنه خرج ضعيف القدرة على دعم إيران في وقت الشدّة.
على الجبهة اليمنية، أعلن عبد الملك الحوثي بعد ثلاثة أيام من» طوفان الأقصى» الاستعداد لدخول الحرب بصواريخه ومسيّراته، وابتدأ مسلسل مثير منذ ذلك الوقت.
تحوّل ذلك المسار من مناوشات وصواريخ معدودة متفرّقة عن بعد، إلى حصار بحري فرضه تحالف «حارس الازدهار» بقيادة الولايات المتحدة. ثمّ نفّذت القوات الجوّية والبحرية الغربية (ثم الإسرائيلية) عدداً من الهجمات لإضعاف قدرات ومخزونات الحوثيين من الصواريخ، وعطّلت المطارات، التي كانت تُستعمل في خدمة خط الإمداد الإيراني. وتأثّرت تلك القدرات بشكل كبير، إلّا أنه لا يمكن تقدير مدى الإضعاف الناتج، إلّا ربّما حين يمرّ زمن، أو تحدث تحوّلات دراماتيكية يكون للحرب البرّية فيها الدور الرئيس. أمّا في مسار حرب غزّة؛ الذي افتتح العاصفة التي هبّت على المنطقة في العامين الأخيرين؛ فقد دمّرت إسرائيل علناً وتحت أنظار العالم القطاع بشكل شبه كامل، وقتلت ما يقارب الستين ألفاً من سكانّها بأطفالها ونسائها، وتركت أهلها يجوبونها لهاثاً يومياً هرباً من القصف أو سعياً وراء الطعام والشراب. كانت قيادة حماس أسيرة الدعم الإيراني خصوصاً، وتعاون حزب الله أيضاً، كما كانت الجهاد الإسلامي، التي حظيت منذ تأسيسها وكتاب مؤسّسها المحوري حول الثورة الإسلامية في فترة الثورة ذاتها، بمنزلة خاصة لدى القيادة الإيرانية. حالياً، يبدو خروج قيادة غزّة منها أمرا مقبولا مبدئياً، بل وصل الأمر إلى اقتراح إخراج سكّانها وتعميرها كمشروع سياحي أمريكي. كلّ ذلك ولا اتفاق فلسطيني على قيادة وطنية تنقذ الوضع، أو ما بقي منه، ولا أفق مفتوحاً لاحتمالات أكثر تفاؤلاً. لم يكن ذلك المسار مصنوعاً ومخططاً من قبل «الإمبريالية والصهيونية» تماماً، بل إن معادلات المنطقة وحالة العجز الشاملة عن ضبط ذلك المسار باتّجاه مفيد، أدخلتا أولئك الأعداء في «المؤامرة»، وجعلتا من تدمير محور المقاومة المزعوم تدميراً للمنطقة في بعض جوانبه.
فلعلّه زمن الواقعية والحلول القنوعة واللغة الهادئة أمام الأعاصير والتغيير الاستراتيجي، رغم صعوبة الإقرار بذلك.
كاتب سوري