حلت في السادس من هذا الشهر الذكرى التاسعة عشرة لرحيل انطون مقدسي، شيخ المفكرين السوريين، الذي عايش أهم الأحداث التي تعاقبت على سورية خلال القرن المنصرم…
روابط الدم
جدي لأمي عطا سركيس هو خال انطون. هو والد خالي نقولا سركيس الخبير النفطي، وخالي الآخر سامي سركيس المحامي الدمشقي الذي كان يقتسم مكتبه مع عبد الحليم قدور على تخوم ثانوية “التجهيز” في دمشق، مهد حزب البعث، (لمن يعرف)، وخالي الثالث الجراح لطيف، الذي أبى إلا العودة إلى بلده لخدمة ناسها بعدما جاب العالم واستقر لمدة طويلة في مستشفى “الكلمة” في حلب، وخالي الرابع الراهب الناسك سلوم سركيس الذي أمضى حياته في التعليم قبل أن يستقر في بلاد جبيل على مقربة من اعز أصدقائه المحامي عبدالله زخيا (لمن يعرف أيضاً)، وأعفيكم من الباقي.
الجد عطا رواية لم تكتب. أبى أن يتخلّى عن الحطة والعقال لحظة واحدة في حياته… حتى عندما عقد العزم للسفر إلى فرنسا لتفقد أولاده الذين كانوا يتابعون دراستهم هناك… ولولا اجتماع وجهاء الحي لإقناعه بضرورة ارتداء “كوستوم” حتى لا يتم اعتقاله في مطار باريس بتهمة الإرهاب… لما رضخ لهذا المطلب، “الحضاري”.
كان بيت اهله في منتصف الطريق بين بيتنا والكنيسة الأثرية الرائعة في سوق “يبرود” الرئيسي حيث كنا نقضي بعض أشهر الصيف…
مئة دولار… والسلام عليكم…
رحل أنطون عن واحد وتسعين عاما، بعدما أقعده المرض لسنوات عديدة.
هو من مواليد يبرود عام 1914، عام إشتعال الحرب العالمية الأولى…
تابع دراسته العليا في فرنسا حيث نال إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من جامعة Montpellier، وإجازة في الحقوق وأخرى في العلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت، حين كانت تابعة لجامعة Lyon… وتواصلت إقامته في باريس مدة تسع سنوات.
كان على مدى عشرين عاما مدرسا للفلسفة اليونانية في جامعة دمشق، ومدرساً لعلم النفس والتربية في دار المعلمين في حلب أولا ثم في دمشق، كما كان أحد المساهمين في وضع منهاج الفلسفة في المدارس.
بدأ عام 1938 بكتابة الدراسات الفكرية والفلسفية والتاريخية في المجلات الأدبية والدوريات العربية.
رحل بعد ستين عاماً من التعاقد الوظيفي مع الدولة، منذ العام 1965، في مديرية التأليف والترجمة والنشر، وغادر وزارة الثقافة في آب/ أغسطس من عام 2000، تاركا لأم ميشيل(لوريس قسيس – من يبرود أيضا)، شريكة حياته على مدى خمسة وخمسين عاما، راتبه التقاعدي الذي وصل بعد الزيادات المتعاقبة عليه إلى حدود مئة دولار ( 4200 ليرة سورية) وفق اسعار ذلك الزمان.
اسعفه وسلم الأمير كلاوس الذي منح له في أواخر العام 2001.. كما منح وسام الآداب والفنون الفرنسي الممهور بلقب “عضو في الآداب والفنون الفرنسية”… وشهادة تكريم من “إتحاد المترجمين العرب” في دمشق بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير 2003…
وقد تولى بعض أصدقائه اصدار كتاب تكريمي اشتمل على دراسات مهداة إليه بعنوان “المسألة القومية على مشارف الألف الثالث” صدر عن دار النهار للنشر عام 1998، وشارك فيه جمال الاتاسي وأدونيس وصادق جلال العظم والفيلسوف الفرنسي أحد أعز أصدقائه،Paul Ricoeur وانطون نفسه… وآخرون ممن عرفوه عن قرب…
الذكريات الأولى
عدا روابط الدم، فإن لقائي الأول مع أنطون يعود إلى العام 1961، حين أعيد من فرنسا على كرسي نقال بعدما أمضى شطراً كبيراً من الخمسينيات في دراسة الفلسفة حين كانت العاصمة الفرنسية تغلي بالأفكار والتيارات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. كان قد سبقه إليها قبل الحرب كل من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وعادا إلى دمشق عام 1938 لينغمسا في العمل السياسي…
ما لبث أنطون أن سار على خطاهما، وغاص حتى الأذنين في تلك المعمعة. وصب جل اهتمامه على دراسة الفلسفة الماركسية، والفكر الإشتراكي، لقد بلغت درجة إنخراطه في ذلك الغليان الفكري أن أصيب بإنهيار عصبي في باريس. وقال لي فيما بعد إن قلبه كان يخبط في صدره بشكل جنوني، وكأنه يريد مغادرة القفص.
وحده صديقه الحميم أديب اللجمي عرف الدواء .
قال لهم: أعيدوه فورا إلى دمشق… فأنطون لا يمكن أن يشفى إلا في ظلالها، على مقربة من جامعة دمشق، ومن ثانوية التجهيز، مهد إنطلاقة حزب البعث، وعلى مرمى حجر من يبرود وحمص وحماه…
وهكذا كان.
عاد على كرسي نقال إلى حمانا أولاً، حيث كنا، أهلي وأنا، نصطاف في تلك السنة ..
كنت ازوره يوميا في الفندق الذي أنزل فيه للإستشفاء، في حين كان أقرباؤه يبحثون له عن منزل في دمشق، وجدوه له اخيراً في حي الشعلان حيث ظل يقيم حتى يوم رحيله…
وبمجرد أن تحسنت صحته بدأ يعطي دروس الفلسفة في جامعة دمشق حيث التف حوله الطلبة طمعاً في علمه، وإرتياحاً لبساطته وعمق تجربته.
كان أفضل أصدقائه بعض اساتذة الفلسفة أمثال بديع الكسم، وأسعد درقاوي، وبعض كبارالمثقفين أمثال سامي الدروبي الذي ترجم فيما بعد روائع دوستويفسكي…
كما ظل على علاقة وثيقة مع بعض المثقفين الفرنسيين وعلى رأسهم الفيلسوف بول ريكور الذي كان يحرص على زيارته في باريس كلما سنحت له الفرصة.
مع الدكتورة نجاح العطار
كان انطون خلال عمله في وزارة الثقافة يقتسم غرفة واحدة مع الدكتورة نجاح العطار. كانت تناديه “استاذ انطون”. كان الحديث بينهما ومعهما شيقاً إلى درجة تجعلك راغباً في إطالة الزيارة ما أمكن إلى ذلك المكتب المتواضع في تلك الوزارة. كانت عربية الدكتورة مهذبة وعذبة على السمع. وكانت احاديثه هو مقتضبة، فيها من الإيجاز أكثر مما فيها من الإطناب بخاصة عندما يتوافد عليه المراجعون، واحد يسأل عن مصير نصه الروائي، والآخر عن مسرحيته، والثالث عن ترجمته، ويحاول “الأستاذ” أن لا يحرج أحداً حتى وإن كان الجواب قاطعا.
بالمناسبة، فإن انطون رغم سنواته الطويلة في الدراسة والتدريس، لم يحمل ابدا لقب “دكتور” أو “بروفسور” أو ما شابه…
وقد أهدى الدكتورة نجاح مقالة عن الترجمة بعنوان: “الترجمة ظاهرة عصرنا الخامسة لا تملأ عيون الناشرين والحكام” (نشرتها في حينه جريدة “السفير” اللبنانية في 16 حزيران/ يونيو عام 2000 )…
هو لم يصدر كتباً إلا كتيباً واحداً عن حرب الخليج الثانية، وآخر بعنوان “مقالات أنطون مقدسي” (1968 – 1993) اصدره بعض أصدقائه تحت عنوان “الأستاذ”.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون أنه أعد دراسة رائعة بعنوان “الماركسية” أذكر أنها اشتملت على نحو 500 صفحة، لم تطبع أبداً، بل ظلت على شكل صفحات مرقومة… وعندما سألته لماذا لا يطبعها أجابني ضاحكاً: “إن وزير الثقافة آنذاك، (كان سليمان الخش على ما أذكر) يصر على إضافة اسمه جانب اسمي على غلاف الكتاب على أساس انه عمل مشترك!
ومع أدونيس
طلما التقيت مع الشاعر ادونيس يزور أنطون في بيته في دمشق يرتشف معه القهوة. كان يكن له ودا كبيراً، ويجد متعة في مناقشته بقضايا السياسة والفلسفة، علما أن انطون ذو منحى قومي عربي، وأدونيس قومي سوري. وكانت المتعة الأكبر في الاستماع إليهما….
أنطون فيلسوف ذو منحى أدبي… وأدونيس شاعر ذو منحى فلسفي…
في 12 كانون الثاني/ يناير 2002 كتب أدونيس في ملحق جريدة “النهار” البيروتية مقالة بعنوان “انطون مقدسي… المؤالفة بين أنواع المعرفة” يقول فيها: “أضع أنطون مقدسي بين أوائل المفكرين في العالم المعاصر، الذين يعيدون الوحدة بين الشعر والفكر، على غرار ما كان قائما في التجارب الإنسانية القديمة التي وصلت إلى أوجها في الفلسفة اليونانية قبل سقراط، عند هيراقليطس، بخاصة. يؤالف بين أنواع المعرفة… موحداً بين الأسس المعرفية الحدسية – الإشراقية، والأسس العلمية التقنية، مجدداً اللغة المعرفية والجمالية في خطاب يلامس الوعي، حدساً وعقلاً، ويستشرف أفقا آخر للعمل”.
و قد كتب لاحقا انطون مقالة من حلقتين بعنوان “أدونيس ومشروع الثورة الثقافية العربية” (نشرتها جريدة “الحياة” يومي 20 و 21 أيلول/ سبتمبر عام 2003) يستعيد فيها بعض محطات العلاقة مع ادونيس، ويحلل المنطلقات الفلسفية في مشروع ادونيس الفكري، وقد جاء في مطلعها:” زارني أدونيس في شقتي في باريس صيف عام 1957 ولم يجدني فترك لي العدد الأخير إذ ذاك من مجلة “شعر”، وكان مكرسا للثورة الجزائرية المستمرة منذ 1954، والقاه بعد أيام فأقول: هلا اسعفتني في قراءة شعر مجلتك؟ فوعدني ولم يبر بوعده إلا بعد حوالي اربع سنوات إذ وافق (وهو في العادة يرفض) على إقامة امسية شعرية في دمشق وكنت قد عدت إليها…
علاقتي بالرجل قديمة نسبيا ترقى إلى الخمسينات من القرن الماضي، غالبا ما كنت القاه في المقهى او المطعم حيث يلتقي اعتياديا المثقفون. المسافة بيني وبينه كبيرة، لا لأنه طالب في قسم الفلسفة وأنا مدرس، إذ كنت أجعل من طلابي أصدقاء، بل لأنني انتمي إلى “العربي الإشتراكي” وهو ينتمي إلى حزب يستدعي الإنسان كله ويستأجر به، هو “الحرب السوري القومي الاجتماعي”. ومع ذلك توطدت بيننا صداقة أقوى من الزمن والأحزاب. وينتقل أدونيس إلى بيروت في ظروف إستئثائية، حيث يحضر اطروحة دكتوراه على موضوع جعله كتابه كلاسيكيا هو “الثابت والمتحول”. لم نكن يومها نميز بين بيروت ودمشق”.
زكي الارسوزي و”البعث العربي”.
اللقاء الأروع هو الذي جمع أنطون مقدسي مع زكي الأرسوزي .
“زكي الأرسوزي كان صديقي- يقول انطون – في الخمسينات كنا ولمدة ست سنوات تقريبا نأكل ونشرب وننام معاً. عرف الارسوزي الفقر الشديد زمنا طويلا في دمشق وكان يقضي أحياناً ستة أشهر بقميص واحدة”…
ويضيف: “عندما وصل بطل اللواء (لواء اسكندرون السليب) إلى دمشق ربيع العام 1938 هو وأنصاره ومريدوه وتلاميذه تجمع حولهم نخبة من الشباب المثقف رأوا فيه النموذج الأمثل للعربي الجديد… أولم يقدم الأرسوزي وجماعته كل منهم ذاته وما يملك للحفاظ على عروبة اللواء؟
كانت ثمة أربعة معاني كبيرة على كل الألسن بين الحربين: النهضة، اليقظة، الأحياء والبعث. ويؤثر الأرسوزي معنى البعث على غيره لما يشير إليه من تراث عالمي يمكن أن يبعث فيصير مستقبلا. وكان الأرسوزي أول من تحدث عن إنشاء (حزب بعث) ينهض بالعروبة العتيدة”.
ويشير انطون إلى أن الأرسوزي نشر أفكاره أولا في كتابه: “العبقرية العربية في لسانها” واتبعه برسائل البعث، ثلاثة رسائل: واحدة للأمة، وثانية للفلسفة العربية، وثالثة للحضارة. وأحاط بما عاشته سورية ولبنان في تلك المرحلة:
– 1943 – 1947: حزب البعث العربي.
– 1949: الحزب العربي الإشتراكي وحركات سياسية ومنظمات اجتماعية كثيرة تنادي بالوحدة العربية…
– شتاء 1953: وحدة الحزبين في واحد.
وفي رسالة موجهة إلى رياض الترك (الذي غادرنا منذ أيام) ونشرها ملحق جريدة “النهار” بتاريخ الأحد 26 كانون الثاني/ يناير 2003. يستعيد انطون بعض صفحات الماضي بقوله: “لم تتمكن البورجوازية السورية التي بدأت تتكون عام 1943 من توطيد اركانها”.
ويضيف في مكان آخر: “عندما انتقل الأرسوزي عام 1968 إلى الرفيق الأعلى ولحق به عبد الناصر بعد سنتين (1970) كانا قد صارا من الماضي الذي يتباعد…
في مطلع هذا القرن كان أنطون منبرا من منابر الربيع السوري، ينشط اللقاءات ويرعى الندوات، رغم إنحناءة ظهره وضعف بصره، والإعياء الشديد الذي بدأ يظهر عليه….
كان شديد الإنتقاد للحياة السياسية في لبنان، لكن آخر أمانيه كانت إستصدار هويات لبنانية لأولاده من رأس بعلبك حيث له ولنا جذور…
كأنه كان يستشعر شيئاً لم يرد البوح به!
(*) مدونة نشرها الكاتب جورج الراسي في صفحته الفايسبوكية