لقد أنتجت هذه الحرب مهزوميها. ليس الشعب الفلسطيني، فهذا شعب يراد من خلال قتله هزيمة طرف آخر. إنه لا يعدو أن يكون مثالًا لما يمكن أن تكون عليه أحوال أي شعب آخر من الآن فصاعدًا.
المحللون، جميعهم، يحسبون أن إسرائيل قد تهزم في الحرب إذا ما تم تفعيل الرأي العام العالمي على نحو ينجح بإدانتها وإحراج ادعاءاتها الفظة، بوصفها دولة ديمقراطية تقيم وزنًا لحياة الإنسان، وتجهد للمحافظة على حقوقه. وهذا في زعم المحللين يجعلها تخسر حلفاءها على امتداد العالم، لئلا يتعرض هؤلاء الحلفاء للخسارة نفسها. والحق أن هذا حكم مضلل تمامًا. الولايات المتحدة الأميركية كانت دولة ديمقراطية تحترم القانون يوم قصفت هيروشيما وأبادت أهلها، وكررت فعلتها في ناغازاكي من دون تردد. والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قتلت عشرات الآلاف في هامبورغ الألمانية في أيام معدودة، هذا من دون حساب قتلى المدن الألمانية الأخرى التي تعرضت لقصف أشبه ما يكون بيوم القيامة.
هذا، ويحدث في الزمن الحديث أيضًا أن تتحالف دول ديمقراطية تحترم القانون وتقيم وزنًا لحقوق الإنسان مع دول لا تحترم مواطنيها، ولا تحترم مواطني الدول الأخرى. وهذا لا يخرج الدولة التي لا تحترم حقوق الإنسان من خانة الدول المنتصرة في الحروب، ولا يجعلها تعاني من تبعات عدم التزامها بالقيم العالمية والأعراف التي يُعتقد أنها سائدة.
لن تهزم إسرائيل لأنها قد تخسر ادعاءها بأنها دولة تحترم القانون. على الأرجح، فإن المقتلة التي تقوم بها حاليًا استنفدت أغراضها، فليس ثمة فارق في الجريمة والعقوبة التي تستحقها يحدد بعدد القتلى المدنيين الذين قصفت أعمارهم. عشرون ألفًا من القتلى سيكلفونها الكلفة نفسها التي ستدفعها فيما لو بلغ عدد القتلى مئة ألف. حياة الفلسطينيين لم يعد لها حساب. لقد حدثت الجريمة والقتلى الفائضون عن حاجة المحللين لتوصيف الجريمة ليسوا سوى قتلى الزمن الضائع.
ولن تخسر إسرائيل إذا اتهمتها دول بعدم مراعاة حقوق الفلسطينيين. في حقيقة الأمر، ورغم كل الادعاءات الأوروبية على هذا المستوى، إلا أن حمى التمييز بين الشعوب والأديان والمذاهب في أوروبا تكاد تبلغ درجة حرارتها القصوى. والأرجح أن العالم يعيش في زمن بلغت فيه الهويات القومية المغلقة ذروة ادعاءها، واكتسبت أقوى حججها. أوروبا اليوم تخوض، قانونًا وعلاقات اجتماعية وتمييزًا اقتصاديًا وثقافيًا، حربًا شعواء ضد كل من هو مخالف ومغاير.
خلاصة هذه الحرب أن الدول الديمقراطية وضعت قيمها جانبًا. ولن نعرف يقينًا متى يمكن أن تعود هذه القيم لتكتسب قوة تؤهلها لتغيير بعض السياسات التي باتت تشبه المسلمات.
لكن هذه الحرب أنتجت مهزوميها. إنهم من دون شك القوى الاجتماعية والسياسية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان والتزام القوانين ورفض التمييز، هذه القوى التي خاضت مواجهات ونضالات لا تحصى، منذ فجر القرن الماضي وحتى اليوم، من أجل إلزام حكوماتها باحترام حقوق الإنسان، سواء كان المعني بهذه الحقوق مواطنًا في هذه الدولة، أو مواطنًا في دولة الأعداء. حركة الحقوق المدنية على امتداد العالم “المتقدم” نجحت في تقييد حكوماتها وجيوشها، وفرضت عليها التزامات “محدودة” بهذه القيم، وجعلت من تجاوزها أمرًا خاضعًا للمحاسبة. نادرة هي الحكومات التي خاضت حروبًا في العقود الأخيرة، ونجحت في احتفاظها بالسلطة بعد انتهاء الحرب، ودومًا كان الفيصل الذي يقرر خسارة الحكومات المحاربة لسلطتها متعلقًا بتجاوزها لحقوق الإنسان والاعتداء على حيوات الشعوب التي تحارب حكوماتها. حركات حقوق الإنسان كانت تحقق نجاحات متوالية إلى الحد الذي جعل أيدي الحكومات مغلولة في أي حرب مهما كانت مخاطر التردد في استخدام القوة كبيرة. الأميركيون الذين خرجوا إلى الشوارع رفضًا لحرب فييتنام في ستينيات القرن الماضي لم تكن حجتهم رفض موت الجنود الأميركيين بنيران الفيتكونغ فقط، بل كانت حجتهم الأعلى والأشد أثرًا هي تلك التي ترفض قتل الفيتناميين، واعتبار موتهم مما لا يمكن تجنبه في حرب مستعرة.
اليوم، تخوض إسرائيل حربًا عارية من أي قناع ضد الشعب الفلسطيني، حربًا أكملت منذ الأسبوع الأول رسالتها إلى العالم، وإلى الشعوب المعرضة لاختبار الحروب العنيفة. لم يكن ضروريًا، في الميزان العسكري، أن يموت ويجرح عشرات الآلاف. رسالة العنف العاري كانت قد وصلت منذ سقوط المئات الأولى في هذه الحرب. لكن إسرائيل مستمرة في حربها على النحو الذي بدأته، بصرف النظر عن سعيها لتحقيق أهدافها الأخرى. الرسالة تقول: هذا العالم الذي رضخ لضغط المناضلين من أجل حقوق الإنسان لم يعد مستعدًا للرضوخ. ها نحن نعود إلى منتصف القرن الماضي، لكننا نملك وسائل قتل أشد فتكًا، وأفجع أثرًا. ويحدث أننا نملك قنابل ذكية يمكنها أن تصيب أهدافها بدقة، لكننا لن نتورع عن استخدام قنابل غبية، ذلك أننا نريد قتل الشعب لا قتل المقاومة. فبقتل الشعب لا يعود ثمة من يجد نفسه مكلفًا بالمقاومة باسمه. هذا الشعب الذي نعتزم قتله ليس مؤهلًا لمحاسبتنا، ولن تنجح كارثته في تعديل الأوضاع المتبعة. ذلك أن الخوف الحقيقي الذي ينتاب الدول المحاربة اليوم يأتي من مجتمعاتها والمجتمعات التي تنعم بحد مرتفع من الديمقراطية وحرية الرأي والمعتقد. وما دام الاجتماع في كل مكان من العالم يبدي تذمرًا متزايدًا من التنوع والهجرات، فإن قدرة هذه المجتمعات على الضغط على حكوماتها باتت أقل بكثير. والحال، فإن الدول الديمقراطية أصبحت بسبب من هذا الهوى اليميني الشعبوي الذي يجتاح العالم غير مبالية بمصائر الشعوب التي تقع خارج حدودها. وتاليًا لم يعد ثمة ما يمنع الجيوش من استئناف الإبادات التي لا تجيد سواها.