لايعود الخطأ إلى أنّ التحقيقات التي أجرتها حكومتا كردستان والعراق بيّنت أنّ الهدفالإيراني الذي انتقم بقصفه “الحرس الثوري” من اغتيال القيادي الكبير في” فيلق القدس” السيد رضي موسوي، لا علاقة له بإسرائيل، لا من قريب ولامن بعيد، بل هو منزل رجل أعمال بارز في أربيل، إنّما يعود هذا الخطأ إلى عدم استشراف آماد ردّاتفعل الأكراد على اختراق سيادة أوّل إقليم تمكنوا من إقامته، بعد نضال كبير وتضحياتجسام.
ومنذأعلن “الحرس الثوري الإيراني” قصف أربيل، لم يهدأ إقليم كردستان: أجبرالحكومة العراقية على التحرك ضد الدولة الحليفة لها واتخاذ مواقف لا تسر لا طهرانولا تنظيمات الحشد الشعبي التابعة لها، وشنّ هذا الإقليم حملة إعلامية ودبلوماسيةضد إيران، بيّنها “دولة جبانة” تستقوي على الأبرياء وتحيّد الأعداءالأقوياء، وفق ما ورد أمس في بيان حكومة كردستان التي استعادت، من دون أي لطافةدبلوماسيّة، موقفًا مشابهًا كان قد أطلقه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين (أحدممثلي كردستان في الحكومة المركزية العراقية)، ونظم تظاهرات شعبية حاشدة جمعت مئاتالآلاف من الأشخاص ضد السلوك الإيراني، وأطلق حملة لمقاطعة البضائع والمنتجاتالإيرانيّة، وازداد صلابة في التمسك ببقاء القوات الأميركية في العراق، خلافًالإرادة إيران والموالين لها في البلاد وعلى رأسهم رئيس الحكومة المركزية محمد شياعالسوداني.
ولاتستطيع إيران ومن معها المزايدة على أكراد إقليم كردستان، فهم، خلافًا لكثيرين فيالبلاد سبق أن تواطؤوا مع “داعش”، ما مكنه، لفترة وجيزة، من إقامة دولتهفي العراق، قاتلوا، تحت أنظار العالم أجمع، هذا التنظيم الإرهابي وصدوا، بكلفةعالية وبجودة موصوفة، تقدمه وتسببوابتقهقره، الأمر الذي حماهم من أيّ صفقات إقليمية فكّر يومًا الرئيس السابق دونالدترامب، في إحدى خلواته الليلية مع” تويتر”، عقدها مع الرئيس التركي رجبطيب أردوغان، إذ هبّت قوى مؤثرة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والعالمتصديًا لهذا التفكير الصفقاتي المشهور به من يُمكن أن يعود، في أقل من سنة واحدة، إلى البيت الأبيض.
لقد ألحق “الحرس الثوري الإيراني”، باستهداف أربيل، أضرارًا فادحة بصورة طهران، بحيث ساعد في إظهارها كما تتراءى للكثيرين: دولة تُكثر من المراجل ضد إسرائيل ولكنّها تخشى، على الرغم من اعتبار نفسها “عمود المقاومة”، كما وصفها مساعد رئيس الجمهورية للشؤون التنفيذية فيها محسن منصوري، أوّل من أمس، ( تخشى) من إطلاق صاروخ بالستي واحد للرد على تل أبيب التي لا تتوانى عن مهاجمتها أينما ارتأت ضرورة لذلك.
وما تسميه إيران “الصبر الإستراتيجي”الذي تبرر به عدم دخولها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، يُظهرها، في الواقع، بأنّهاتستغل أذرعها في الشرق الأوسط، لاستدراج صفقة كبرى مع كل من الولايات المتحدةالأميركية وإسرائيل، وليس لمواجهتهما.
وهذا “الصبر الإستراتيجي” الذي تفهمهإسرائيل بشكل ممتاز، يتيح لها أن تستهدف إيران، عندما تشاء وأينما تشاء، وقديدفعها إلى شنّ حرب على لبنان، لأسباب قد تتجاوز مبرر حماية البلدات الحدودية فيشمالها، إلى محاولة لتقليم أظافر “حزب الله” الحادة، حتى لا تؤذيها، إذاما أقدمت، في وقت لاحق، على ضرب إيران في عقر دارها، للحيلولة دون مواصلة برنامجهاالنووي الذي وصل، كما بيّنت التقارير الجديّة الأخيرة، إلى مستويات خطرة للغاية.
على أي حال، فإنّ ردة الفعلالكردية التي واكبتها ردة فعل عراقية، أعطت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التيتواجه النفوذ الإيراني في البحر الأحمر والعراق وسوريا، حافزًا ليطلق مواقف غيرمسبوقة ضد إيران، إذ أبدى، للمرة الأولى، استعدادًا للتفكير بخطوات معادية تجاهها،إذ قال بعد قصف “الحرس الثوري الإيراني” لباكستان وكردستان: “إيرانلا تحظى بالقبول الكبير في المنطقة ونعمل الآن (لتحديد) مآل كل هذا. لا أعلم إلىأين سيؤول ذلك”.
وإذا كان رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنياميننتنياهو قد بذل ويبذل جهده لإقناع الولايات المتحدة الأميركية بتوجيه ضربات قاسية إلىإيران، لإجبارها على وقف برنامجها النووي، فإنّ إدارة الرئيس جو بايدن يبدو أنّهاباتت مقتنعة بأنّ استمرار هذا النهج الإيراني في الشرق الأوسط يعزز التطلعات الحربية لدى نتنياهو، ما يعرقل،في تقاطع كبير بين تل أبيب وطهران، المساعي الأميركية والغربية والأوروبيةوالعربيّة لإيجاد حل لمشكلة الشرق الأوسط يقوم على إرساء دولتين، واحدة تكون خاصةبالفلسطينيين.
على أي حال، يبدو واضحًا أنّ إيران ما بعد ردود فعلأربيل لن تستطيع أن تكون كما كانت عليه قبلها، فماذا تراها سوف تفعل لإعادة تلميعصورتها، بعدما بدت دولة صفقات والحروب البديلة وليست دولة المبادئ والمواجهاتالمباشرة!