تشكّل الميليشيات التابعة لإيران ضمن ما يُعرف بمحور الممانعة، عبئاً كبيراً على الدول المتواجدة فيها، وتضعها أمام خيارين أحلاهما مرّ: الدمار نتيجة حرب أهلية، أو الهلاك نتيجة حرب إقليمية. لقد عبّر عن ذلك وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب في مقابلة أخيراً قال فيها: “إنّه اذا ما خُيّر لبنان بين الحرب الإقليمية والحرب الأهلية فهو سيختار الحرب الإقليمية”.
وجاء كلام بوحبيب بعد تصريح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، والذي ربط إنهاء المواجهات في جنوب لبنان بين اسرائيل و”حزب الله” بانتهاء حرب غزة. طبعاً لم يكن للسلطتين التنفيذية والتشريعية في لبنان أي دور بإعلان “حزب الله” عن فتح جبهة الجنوب تضامناً مع حركة “حماس” في غزة. وحال لبنان كحال العراق وسوريا واليمن، حيث الحكومات هناك لا تملك فعلاً قرارات الحرب والسلم، إذ أنّ الميليشيات هي التي تقرّر مَن ومتى تهاجم عسكرياً، وذلك بما يتناسب مع الأجندة الإقليمية لطهران.
هذا الواقع يطرح سؤالاً مهمّاً: هل ستنجو هذه الدول من حرب أهلية تُعتبر احتمالية اندلاعها كبيرة وقابلة للانفجار، مع اتساع الشرخ الداخلي بين هذه الميليشيات المذهبية والإيديولوجية، والمكونات الأخرى لشعوب الدول المتواجدين فيها؟.
يدّعي المسؤولون في طهران بأن لا دخل لهم في قرارات هذه الميليشيات. فهم يزودونها فقط بالمال والسلاح بهدف هزيمة أميركا وحلفائها في المنطقة. وتشدّد طهران على أنّها تحترم سيادة الدول التي تسلّح الميليشيات فيها وتُضعف الحكومات المركزية وتقوّض أمنها. وتتنصل إيران من هجمات هذه المجموعات على مصالح أميركا وحلفائها، ولكنها في الوقت عينه تعرض نفسها كوسيط لحل أي مشاكل مع هذه الميليشيات مقابل مكاسب سياسية وأمنية لها. كما أنّ إيران خفّفت عن نفسها عبء تهريب أسلحة لهذه الميليشيات عبر إنشاء مصانع محلية ونقل خبرات، لتمكينها من تأمين حاجاتها من بعض الأسلحة والذخائر محلياً. وتقوم هذه المجموعات المسلّحة بتبادل الخبرات التكتيكية والتقنية والقتالية بين بعضها، ما يبقيها على مستوى متقارب من القدرات. لكن يبقى “حزب الله” أقوى وأهم هذه المجموعات، ويملك تأثيراً كبيراً عليها.
تواجه واشنطن اليوم معضلة التعامل مع هجمات ميليشيات الحشد الشعبي، والتي كانت الحكومة العراقية شرّعتها في مرحلة سابقة، ولكنها أبقت على استقلالية قيادتها. فهذه الميليشيات تهاجم القوات الأميركية علناً وضدّ قرارات الحكومة العراقية. وتعتبر بغداد الهجمات الأميركية رداً على الميليشيات انتهاكاً لسيادتها. فكيف للقوات الأميركية أن تردّ على هذه الميليشيات من دون أن تهاجم أرضاً عراقية؟
ويواجه المجتمع الدولي المعضلة ذاتها في اليمن، حيث تهاجم الميليشيات الحوثية سفن الشحن الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
ردّ التحالف البحري الذي تقوده أميركا على الهجمات الحوثية يكون على أراضٍ يمنية ويهدّد أحياناً أرواح المدنيين. ولقد شهد اليمن حرباً أهلية بين الحوثيين وقوى الشرعية، وهي لم تنته في انتظار إتمام وتوقيع اتفاق تعمل عليه الأمم المتحدة منذ فترة.
وتُظهر تصريحات قيادات روحية وسياسية غير شيعية في لبنان معارضتها لفتح “حزب الله” جبهة الجنوب، حيث تتعرّض قرى يسكنها لبنانيون من كل مكونات المجتمع اللبناني المتعدّد الطوائف. طبعاً “حزب الله” وجمهوره يعتبران هكذا تصريحات شكلاً من أشكال العمالة لإسرائيل، ويخوّنان كل من يقولها أو يؤيّدها. ويبدو أنّ قيادات الأحزاب المسيحية والدرزية تتفادى أي خطوات قد تؤدي إلى اشتباك عسكري مع “حزب الله”. فهي من جهة لا تريد العودة للحرب الأهلية، ومن ناحية أخرى تدرك تفوّق “حزب الله” العسكري الكبير. ويأمل العديد من اللبنانيين ومسؤولي الأحزاب بأن يؤدي أي حل سياسي إقليمي بين إيران وأميركا وحلفائها إلى تخلّي “حزب الله” عن سلاحه والسماح بوجود دولة لبنانية قوية بحكومة مركزية فاعلة.
والأمر نفسه بنطبق على المجموعات العراقية المعارضة لإيران والحشد الشعبي. لكن هل هذه المجموعات ستتخلّى من تلقاء نفسها عن سلاحها؟ وهل إيران بوارد التخلّي عن أهم قوة عسكرية توفّر لها نفوذاً عابراً للحدود، مع القدرة على إغلاق ممرات مائية وتهديد أميركا وأوروبا والدول العربية؟.
كلما طالت النزاعات العسكرية في المنطقة واشتدت حدّتها كلما تزعزعت الأوضاع الداخلية في الدول التي تضمّ ميليشيات إيرانية. هذا الأمر سيصبح جلياً مع مرور الوقت، بخاصة إذا ما طالت وتوسعت حرب غزة. فهذه الحرب قد تشهد هدنة لتبادل الأسرى، لكنها على الأرجح لن تنتهي بسبب تداعيات عملية 7 تشرين الأول (اكتوبر) على الشعب الاسرائيلي ومؤسسته الأمنية.
ويتوقع بعض الخبراء، أن تستأنف اسرائيل عملياتها العسكرية في غزة بعد عملية تبادل الأسرى، ولذلك تصرّ حكومة الحرب على رفض إنهاء الحرب كشرط، وتصرّ على عبارة هدنة في أي اتفاق جديد مع “حماس”. وتتحدث القيادة الاسرائيلية عن استمرار وجود بنية تحتية عسكرية لحركة “حماس” في قطاع غزة، وأنّ تدميرها سيحتاج لبضعة أشهر اضافية.
عودة الحرب في غزة ستؤدي لعودة الاقتتال على حدود لبنان الجنوبية ولعودة هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وهجمات ميليشيات الحشد الشعبي على القواعد الأميركية.
وإذا ما اندلعت حرب إقليمية فهي ستؤدي لخسائر هائلة في الدول التي تنشط فيها الميليشيات الإيرانية، لأنّها ستتعرّض لضربات صاروخية وغارات جوية وقصف عنيف من جانب أميركا واسرائيل وقوى حليفة أخرى. وحذّر بعض المسؤولين الإسرائيليين بأنّهم إذا ما دخلوا حرباً مع “حزب الله” فإنّهم سيحوّلون بيروت أو جنوب لبنان إلى غزة ثانية. وإذا ما حدث ذلك فإنّ “حزب الله” والميليشيات الأخرى ستواجه غضب شعوب دولها فور انتهاء الحرب، وهذا بدوره قد يؤدي إلى حروب أهلية فيها. فهذه الشعوب قد لا تقبل بعودة الأمور كما كانت عليه سابقاً، وقد تلجأ أحزابها لخيار المواجهة العسكرية إذا ما شعرت بتراجع قدرات الميليشيات بسبب الحرب الإقليمية، الأمر الذي سيؤدي لحرب أهلية قد تتسبّب بمآسٍ كبيرة وربما تقسيم البلد.
وعليه، فإنّ لبنان والعراق وسوريا واليمن قد تشهد حرباً اقليمية تُشعل حروباً داخلية. وفي هذه الحالة ستفشل توقعات بعض الوزراء في الحكومة اللبنانية.