هيغل فيلسوف صعب. لأنّ سمعته الموسومة بالغموض ربما تكون العقبة الأولى في فهم ما يقول.  ومع ذلك، فإنّ ما تدين به الحداثة الفلسفية الغربية إليه، يمكن تلخيصه في نقطتين. أولاً، عقل متسع، أكثر شمولاً من الفهم البسيط، وقادر على تفسير التكوينات (النفسية، الثقافية، التاريخية، الخ) التي تبدو للوهلة الأولى غير عقلانية. ثم اشتراط التفكير في الحاضر، لإخراج الفلسفة من سراب الأبدية وإعادتها إلى الزمن.
وربما يوازيه في التاريخ الفلسفي المعاصر في ذلك جيل دولوز. لكن كيف نفهم العلاقة النقدية التي حافظ عليها جيل دولوز طوال حياته مع فلسفة هيغل؟ هل من الممكن التفكير في هذه العلاقة اللاذعة من دون تجديد الصورة المبسطة لمعارضة غير قابلة للاختزال؟ هذا هو رهان كتاب “الثورة المغدورة: دولوز ضدّ هيغل”، كما يقدّمه كاتبه الفيلسوف الفرنسي جان بابتيست فويلرود (منشورات جامعة Septentrion 2023).
بالعودة إلى نصوص شبابه ومتابعة تطوره الفلسفي بالكامل حتى عمله المشترك مع فيليكس غوتاري وكتاباته الأخيرة، يُظهر العمل كيف شكّل دولوز مشروعه الفكري في حوار مع الفلسفة الهيغلية ولم يتوقف عن الحديث معها. وبدلاً من الصورة النمطية للعدو العظيم للهيغلية، فإنّ ما يظهر هو رؤية أكثر دقّة للفكر الدولوزي الذي حاول إنجاز الثورة الفلسفية التي بدأها هيغل لكنه فشل في تحقيقها حقًا.
الشاب دولوز، الذي كان بالكاد يبلغ من العمر عشرين عامًا في نهاية الحرب، هل كان لديه بالفعل مناهضة للهيغلية راسخة في فكره، لأنّه هو نفسه يميل إلى جعلنا نصدّق؟ وإذا لم يكن كذلك، فهل هو، على العكس من ذلك، هيغلي يمارس الديالكتيك بطريقة أخرى؟ هذه النصوص التي يضمّها الكتاب لا تذكر هيغل، والأرجح أنّ دولوز الشاب كان غير مبالٍ بالفلسفة الهيغلية، بلامبالاة هي على الأقل نصية. على عكس ألتوسير وفوكو، على سبيل المثال، اللذين أجرى كلاهما أطروحته عن هيغل.
يعود الكاتب إلى العام 1952 تاريخ ظهور أحد أهم كتب جان هيبوليت “المنطق والوجود”. عندما قام دولوز، الذي كان أستاذه، بكتابة مراجعة للكتاب في عام 1954 في المجلة الفلسفية الفرنسية. مراجعة لا تخلو من الغموض، لأنّ دولوز يؤكّد على القيمة الأساسية للفلسفة الهيغلية بينما يبدأ التعبير عن الانتقادات والشكوك حولها. وقد أفرز هذا الغموض قراءتين متعارضتين لنص دولوز. لقد اعتبر البعض أنّ دولوز كان بالفعل مناهضًا للهيغلية في عام 1954، وأنّ المراجعة تتضمن خلاصة نقده للفلسفة الهيغلية. واعتبر آخرون أنّ دولوز، وإن لم يكن هيغليًا بالكامل، كان على الأقل مؤيّدًا لهيغل، وأنّه لم يتحول بعد إلى مناهضة الهيغلية. يُظهر التفسير الأول قراءة غائية لهذا النص، فهو يقرأه في ضوء نصوص الستينات المناهضة للهيغلية بشدّة. وأما الثاني، فقد حاول وضع تحقيب زمني لتحول دولوز نحو العداء المطلق لهيغل. في العام نفسه ألقى دولوز محاضرة أمام جمعية أصدقاء بيرغسون، ستُنشر لاحقاً في مجلة الدراسات البريرغسونية تحت عنوان “مفهوم بيرغسون للاختلاف”، مقترحاً مفهوماً مغايراً عن الاختلاف بناءً على برغسون ناقداً من خلاله الفلسفة الهيغلية. علاوة على ذلك، فإنّ هذه البادرة النقدية هي التي تناولها بعد ذلك بعامين، في عام 1956، في نص آخر عن برغسون ظهر في قاموس الفلاسفة المشهورين الذي حرّره ميرلوبونتي.
لاحقاً في الستينات، بدأت لهجة النقد الدولوزي لهيغل أشدّ وضوحاً وعمقاً. يبدأ كتاب “الاختلاف والتكرار” بالتأكيد على أنّ “روح العصر” تنتمي إلى “معاداة الهيغلية المعممة”. يشكّل هذا الكتاب الحجة الأكثر راديكالية ضدّ الهيغلية التي كتبها دولوز على الإطلاق.
بشكل عام، عندما نهتم بالعلاقة بين دولوز وهيغل، نقدّم الاختلاف والتكرار، الكتاب العظيم لعام 1968، باعتباره تتويجًا وتوليفًا للدراسات المختلفة التي شغلت دولوز لمدة خمسة عشر عامًا تقريبًا . صحيح أنّ الاختلاف والتكرار يتوافقان في كثير من النواحي مع الدراسات السابقة، تماشيًا، على وجه الخصوص، مع معاداة نيتشه للهيغلية والفلسفة التي نجد فيها الحجة نفسها  والراديكالية نفسها واللهجة القوية نفسها. ومع ذلك، يجب علينا أن نكون منتبهين للتطورات الجديدة، لا سيما حقيقة أنّ هذا النص، قد تزامن مع حدث سياسي فارق في تاريخ فرنسا المعاصر وهو ثورة أيار (مايو) 1968 التي لم تكن مجرد انتفاضة طلابية ضدّ الديغولية، بقدر ما كانت صحوة فكرية امتدت آثارها إلى كل العالم. بعد “الاختلاف والتكرار”، وبعد مرور الستينات، احتل هيغل مكانةً أقل أهمية في فلسفة جيل دولوز. فهو لم يفقد مكانته كمحاور متميز فحسب -إذ لم يناقشه دولوز كثيرًا في كتبه التي تعود إلى سبعينات القرن العشرين  وثمانيناته- ولكن يبدو أيضًا أنّ العلاقة مع فكرة تهدأ إلى حدّ ما في بعض الأحيان. لا تزال الفلسفة الهيغلية محل انتقاد، بالطبع، لكن مناهضة الهيغلية في “ضدّ أوديب: الرأسمالية والفصام” أو “ألف هضبة”، هي أقل شراسة وأقل مركزية، مما كانت عليه في كتبه السابقة: “نيتشه والفلسفة” أو “الاختلاف والتكرار”. كل شيء يحدث كما لو أنّ الغليل، في النقد المناهض للهيغلية، قد ارتوى، وأنّ “مسألة هيغل” قد تمّت تسويتها. ربما تكون وفاة جان هيبوليت عام 1968 قد ساهمت في هذا التغيير في الموقف: الأستاذ السابق، الممثل العظيم للهيغلية قد توارى، ولم يعد للتلميذ من داعٍ لمناكفة أستاذه.
اكتسب هيغل في السياق الفكري الفرنسي أهمية راجحة أراد دولوز أن يكسرها. في عام 1946، اعتبر أحد كبار الفلاسفة الفرنسيين هو موريس ميرلو بونتي، أنّ “هيغل هو أصل كل شيء عظيم تمّ إنجازه في الفلسفة على مدار قرن من الزمان”. في مواجهة هذا التكريس الهيغلي في فرنسا، شارك جيل دولوز بشكل قوي في مناهضة الهيغلية في الفلسفة الفرنسية في الستينات، إلى جانب فوكو وألتوسير ودريدا وليفيناس وآخرين، قدّم فكره كبديل جذري للفلسفة الهيغلية، معتمداً بشكل أساسي المنهج الجدلي، من المادية الماركسية إلى فينومينولوجيات سارتر.
 لكن هذا الكتاب يضيف مزيداً من التعقيد على العلاقة التي حافظ عليها دولوز مع فلسفة هيغل، من خلال إظهار أنّه لم يكن دائمًا يتبنّى موقفًا نقديًا جذريًا في ما يتعلق بالهيغلية. في تطور هذه العلاقة، لا توجد دائمًا استمرارية، ولا تطور متجانس، بل مجموعة من الهزات والانقطاعات التي ترجع جزئيًا إلى انعكاسات فلسفية بحتة (قراءة برغسون، ونيتشه، وسبينوزا)، ولكنها، من ناحية أخرى، ترجع إلى لقاءات (تورنييه، هيبوليت، فوكو، ألتوسير، غوتاري …) ومشهد محدّد جدًا للحياة الفكرية الفرنسية في ذلك الوقت (الوجودية، الماركسية، السياق السياسي بعد ايار /مايو 68). لقد أبعدت الإزاحات الصغيرة المتعددة دولوز عن الفلسفة الهيغلية، لكنه حافظ على اهتمام وطيد بهيغل، حتى وإن كان ناقداً له، فالنقد اهتمام من نوع مختلف.