
قناع غورغون في متحف “هيبون”.
إلى الأسفل من كنيسة القديس أوغستين، تتراءى لك هضبة مرتفعة تشرئب لها الأعناق، وتحتضن أحد أهم المواقع التراثية الثقافية والتاريخية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ويُعتبر من أهم ميزات جوهرة الشرق الجزائري مدينة عنابة، إنّه المتحف الروماني “هيبون”.
يروي المتحف تاريخ عنابة العريق أو بونة كما كان يسمّيها الرومان، ويحوي أثاراً بأعداد كبيرة ترمز لمختلف الحقب التاريخية للمدينة.
يعود إنشاء متحف “هيبون” إلى ما قبل استقلال الجزائر، وتحديداً إلى العام 1950، فيما تمّ فتحه للجمهور والزوار خلال العام 1968. يتربّع على مساحة 1800 متر مربع، ويضمّ ثلاث قاعات عرض وقاعتين للآثار المحمية مع مكتبة تضمّ ما يقارب 3350 كتاباً، إضافة إلى مركز للبحوث.
مدير متحف “هيبون” في عنابة خليل عزوني، هو شاب في مقتبل العمر، تدرّج في سلّم المسؤوليات عبر العديد من المؤسسات التراثية والثقافية، ليتقلّد منصب إدارة هذا الموقع الأثري التاريخي بامتياز، وليجعل منه مقراً يستقطب حركة سياحية بروح شبابية متميزة.
قطع أثرية نادرة
يقول عزوني إنّ “كل زائر للمتحف يخرج معجباً، منبهراً ومندهشاً، ولعلّ ذلك يعود أساساً إلى انفراد المتحف بقطع أثرية لا مثيل لها في العالم، وتعدّ مقصداً للباحثين في الآثار من مختلف الدول، كتمثال النصر (300 كلغ من البرونز وبطول يفوق 2,40 متر) المهدى ليوليوس قيصر، إضافة إلى رأس تمثال الإمبراطور فيسبسيانوس مع ابتسامته الشهيرة، والعديد من القطع الأثرية الأخرى”.
ويلفت إلى موقع المتحف بالقرب من وسط المدينة، والذي جعله مقصداً سياحياً بامتياز لزائري محافظة عنابة التي تعدّ من أجمل المدن الساحلية والسياحية في الجزائر، كما تُعتبر مقصداً للزوار على مدار السنة، لما تحتويه من معالم سياحية خاصة ومنها السياحة الثقافية.
وعن إمكان زيارة المتحف خلال العطل والأعياد والمناسبات المختلفة، قال عزوني إنّ “تبعية متحف هيبون للديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية تحت وصاية وزارة الثقافة والفنون، جعلته يستقطب إمكانات بشرية، من مهامها تأمين المتحف والموقع الأثري بالتناوب، وهو يبقى في خدمة زواره على مدار أيام الأسبوع وحتى خلال الأعياد والمناسبات”.
دكان للتراث داخل المتحف
غيّرت السلطات في الجزائر من مفاهيم استغلال المواقع التراثية والثقافية عبر البلاد منذ العام 2020، فأضحى الحديث متواصلاً عن ضرورة فتح الباب أمام المستثمرين ورجال الأعمال للاستثمار في المواقع التراثية والثقافية، بما يحوّلها لمسارات تراثية ثقافية وسياحية، تُنعش السياحة التراثية والمتحفية، لتعود بالنفع المادي على الخزينة العمومية.
وفي هذا المجال، أكّد عزوني لـ”النهار العربي” أنّ إدارته تعمل اليوم على “محاولة استغلال بعض المساحات الشاغرة داخل المتحف بإنشاء حانوت (دكان) للتراث، وفتح باب الاستثمار أمام القطاع الخاص، ما سيعزز تصنيفه ضمن المسارات السياحية التي تخصّ كل الشرق الجزائري وليس محافظة عنابة فقط، ويندرج ذلك في إطار استراتيجية الحكومة القائمة على تعزيز الاقتصاد التراثي الثقافي، بما يجعل مقوماتنا التراثية مقصداً ومورداً اقتصادياً مهماً”.
ويضيف عزوني أنّ “هيبون” “يُعدّ من أهم المتاحف التي يديرها الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، وهذا ما جعله يستفيد أخيراً من مشاريع مهمّة، على رأسها التسييج ووضع نظام كاميرات المراقبة. كما أننا نعمل اليوم على تعزيز عدد الحراس من أجل ضمان سلامة الممتلكات الثقافية. أما في ما يخصّ الحفاظ عليها، فإننا نقوم بأعمال التنظيف والصيانة الدورية لكل القطع المعروضة فيه، مع الحرص الدائم على توفير البيئة الملائمة لكل قطعة أثرية، وذلك بحسب تركيبتها وعناصرها”.
غورغون… مغامرة قناع!
في عام 1996 سُرق قناع غورغون من متحف “هيبون” في عنابة، ولم تعرف السلطات الجزائرية موقعه حتى العام 2011، حيث وُجد في تونس، وتحديداً في بيت صخر الماطري، صهر الرئيس التونسي المخلوع الراحل زين العابدين بن علي.
القناع الذي هو عبارة عن رأس “ميدوسا” بفم مفتوح ويزن أكثر من 320 كلغ، مصنوع من الرخام الأبيض ويعود إلى العهد الروماني وتحديداً إلى نهاية القرن الثاني للميلاد، وقد اكتُشف خلال حفريات بقيادة الخبير في الآثار الفرنسي بيار شوبو، بالقرب من الموقع الأثري للمدينة الرومانية “هيبون” عام 1930، وقبل استرجاعه كان محل خلاف حاد بين الجارتين الجزائر وتونس، خصوصاً بعدما قامت السلطات التونسية بعرض القناع في أحد معارضها، الأمر الذي أثار حفيظة الجزائر.
واستعادت الجزائر القناع المسروق عام 2014، وقالت وزيرة الثقافة الجزائرية حينذاك خليدة تومي إنّ “قناع غورغون سُرق حين كانت الجزائر منشغلة بمحاربة الإرهاب من أجل إنقاذ الجمهورية”.
القناع لم يعد إلى مكانه الأصلي في متحف “هيبون” بل اختير له مكان خاص في متحف الآثار القديمة في العاصمة الجزائرية، وبقي في العاصمة لست سنوات كاملة لغاية 2020، تاريخ إعادته إلى عنابة.
وعن ذلك يقول مدير متحف “هيبون” إنّ استعادة قناع “غورغون” عززت الحركة في المتحف، علماً أنّ استرجاعه تمّ بفضل تضافر الجهود بين السلطات الأمنية ومصالح وزارة الثقافة والفنون، من دون أن ننسى تلبية هذه الأخيرة لمطلب المجتمع المدني العنابي، الذي طالب بعودة القناع إلى “هيبون” بعدما كان معروضاً في متحف الآثار القديمة والفنون الإسلامية في الجزائر العاصمة، وهذا ما جعله يخطف الأنظار بين باقي القطع المعروضة.
ويضيف عزوني أنّ ذلك كله “لا يقلّل من أهمية المجموعات المعروضة في متحف “هيبون”، وخصوصاً أنّ لها خصوصيات من خلال ما ترويه من وقائع وأحداث ماضية، وحتى منها ما يربط الماضي بالحاضر ودرجة تطور الإنسان القديم”.