رغم التأنّي الإسرائيلي في اجتياح غزة بريّاً، بقي الهدفان الإسرائيليان من العملية صريحين، وواظب قادة الحيش والحكومة على التأكيد عليهما. الهدف الأول هو القضاء نهائياً على حماس، والهدف الثاني هو التخلص من “تهديد” سكان قطاع غزة المتوقع مستقبلاً، إما بترحيلهم إلى سيناء، أو بقضم مساحات واسعة وضمّها ما يجعل عيش أكثر من مليوني فلسطيني مستحيلاً ضمن ما سيتبقى من غزة.
لكي يُفهَم الهدف الأول جيداً، يمكن الاستدلال بأقوال الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحق بريك الذي يقدّر عدد مقاتلي حماس في غزة بأربعين ألف مقاتل، أي أن هدف القضاء عليهم ينطوي على قتل أضعاف هذه العدد من المدنيين الفلسطينيين، وحتى إذا كانت هناك مبالغة في التقدير فهي لا تغيّر في الجوهر. الرقم المتوقَّع ليس بلا دلالة في الصراع الأشمل، فوق ما فيه من وحشية مباشرة. وفي ما يخصّ الهدف الثاني، فالمعلَن بوضوح تام يقول أن قادة إسرائيل لا يريدون باستئصال حماس معالجة المشكلة الأصلية وهي تحويلهم قطاع غزة إلى معتَقل، بل يريدون معاقبة السجناء بجعل السجن أسوأ مما كان عليه، بهدف دفعهم إلى الهروب فرادى على المدى البعيد إذا تعذّر تهجيرهم جماعياً الآن.
سيكون من السهل جداً على العقل القولُ أن حماس “بهجوم السابع من أكتوبر” جرّتْ هذه الويلات على الفلسطينيين، مع القول أنه لا يُتوقَّع من عدو قادر ومدعوم دولياً إبداء الرأفة بالمدنيين الفلسطينيين، ويمكن الاستئناس بمعظم المواجهات التي أتت محصّلتها وفق ميزان القوى المعروف. ثمة فهم ناقص في الاقتصار على ما سبق، من دون أن نبرر لحماس أخطاءها وخطاياها على صعيد ممارسات سلطتها في القطاع، وصولاً إلى عمليات قتل المدنيين الإسرائيليين في “طوفان الأقصى، وأول عيوب هذا الفهم إيحاؤه بأن الاستكانة الفلسطينية كفيلة بترك الوحش نائماً والإفلات من عواقب استثارته.
تقترح التحليلات المتداولة عموماً عمليةَ حماس كبدء لمرحلة جديدة، مع التنويه عند الضرورة بتحفّز الحكومة الإسرائيلية الحالية “الأكثر تطرّفاً” إلى استغلال تعاطف العالم لتنفيذ سياساتها. وبالطبع ليست مطلوبة ولا واقعية في سياق تحليل الحدث الحالي العودة إلى إنشاء الحركة الصهيونية، أو إعلان دولة إسرائيل، أو التحدث من منطلق أخلاقي لا يلحظ الجانب السياسي ومقتضياته، لكن سيكون من الخطأ الفادح تجاهل تواريخ وأحداث لصيقة بالواقع الحالي.
في نوفمبر 1995 اغتال متطرف إسرائيلي رئيس الوزراء آنذاك إسحق رابين، وتواطأت النخب الإسرائيلية على اعتبار الحدث فردياً، كأنه لم يأتِ في سياق سياسي سيجد ترجمته في أيار 1996 بانتخاب بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء في اقتراع شعبي. قبل اغتيال رابين كانت اتفاقية أوسلو 1993 مع الفلسطينيين قد حظيت بموافقة الكنيست بواقع 61 صوتاً من أصل 120، أي أن ما يُسمّى عادة بمعسكر السلام الإسرائيلي كان ضعيفاً وهو في أحسن حالاته. باتفاقية أوسلو أنهى ياسر عرفات ورابين الصراع رسمياً بوصفه صراع وجود، ليدشّن الاتفاق الانتقال إلى حل الدولتين، وليعِد بتسوية قضايا الحل النهائي “مثل المستوطنات والقدس والحدود والصلاحيات” خلال خمس سنوات.
انقضت مهلة السنوات الخمس، وفي أثنائها استمر الاستيطان في أراضي الضفة الغربية، مراتٍ بذريعة ما سُمّي “التطور الطبيعي” ومرات بإنشاء بؤر جديدة، لتندلع الانتفاضة الثانية بسبب تلك الممارسات، وصولاً إلى أواخر آذار 2002 عندما حاصرت القوات الإسرائيلية الرئيس عرفات في مقرّه في المقاطعة، ثم لينتهي حصار شريك السلام بوفاته، أو تسميمه حسب بعض الروايات. إذا شئنا اختيار مسار مبسّط عمّا حدث منذ اغتيال رابين حتى الآن، فإن هيمنة اليمين المتطرف والديني على الحياة السياسية الإسرائيلية، وتراجُع اليسار أو يسار الوسط ممثلاً بحزب العمل الذي تدهورت مكانته التاريخية، يكفيان لشرح نكوص النخب السياسية الإسرائيلية عن وعد رابين بالسلام.
بعبارة أخرى، استعاد اليمين الإسرائيلي فعلياً المفهومَ السابق للصراع بوصفه صراعَ وجود، من خلال التقويض المتواصل لحلّ الدولتين بإجراءات أحادية تجعله أصعب بكثير مما كان عليه وقت اغتيال رابين، أو بالأحرى تجعله مستحيلاً. سيكون من التعسف الشديد عدم قراءة ما حدث في الفترة التي صعدت فيها شعبية حماس، لأن صعودها لطالما أُخذ دلالةً على تطرف فلسطيني، من دون النظر إلى أن التطرف اللفظي عموماً والعسكري أحياناً سبقته على الدوام ممارسات إسرائيلية تقوّض ما يسعى إليه أشد الفلسطينيين اعتدالاً، مع التأكيد مرة أخرى على عدم استخدام النهج الإسرائيلي لتبرير خطايا وأخطاء حماس أو سواها من المنظمات الفلسطينية في غزة أو الضفة.
العودة إلى المفهوم السابق للصراع هي ما يشرح المقاصد الإسرائيلية الحالية، فالأهداف من الهجوم على غزة تتجاوز بمراحل كونه انتقاماً للقتلى في هجوم حماس. تحت عنوان استئصال الأخيرة، ثمة إبادة تعبّر عن صراع الوجود الذي يكون دائماً إبادياً، أو كلما عزّ الخلاص من العدو بتهجيره، ويكون شديد الوحشية لكسر إرادة المتمسكين بالبقاء في أراضيهم. استئصال حماس هو التعبير الرمزي لما يفهمه أقرب حلفاء إسرائيل، لذا أتى تأكيد الرئيس الأمريكي لنتنياهو قبل يومين على التمسك بحل الدولتين معطوفاً على تمنّيه التزام إسرائيل بقوانين الحرب لجهة حماية المدنيين، “قدر المستطاع” حسب تعبيره.
لا نحتاج تخمينات وتكهّنات إزاء نوايا الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، فأقطابٌ منه صرّحوا بعزمهم على تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وترحيل فلسطينيي الضفة والقطاع إلى الأردن ومصر. بعض الفهم الخاطئ الرائج لدينا يستند إلى أن إصرار الفلسطينيين على حل الدولتين سيعرقل المخططات الإسرائيلية، لأنه سيكون مدعوماً بالإرادة الدولية لتوافقه معها، فضلاً عن أن هذا الإصرار يدفع عن أصحابه تهمة الإرهاب. ولا يخفى استناد هذا التصوّر إلى فرضية تقليدية، مفادها كسب الرأي العام الغربي بحيث يضغط على الحكومات كي تتخذ موقفاً يميل إلى الإنصاف، وهي فرضية لا يدحضها تصوير البعض الآخر الغرب كشيطان رجيم، وإنما يدحضها العزوف المفهوم للأخير عن التدخل المباشر المتواصل، ولن تكون هناك حكومة أو حكومات غربية تلاحق مثلاً كل يوم تفاصيل اعتداءات المستوطنين على الأراضي وعلى أصحابها.
للخروج من تصوراتنا التقليدية العائدة إلى اتفاق أوسلو، وتلك الأسبق العائدة لإنشاء دولة إسرائيل، يجدر الانتباه جيداً إلى أن الصراع العربي-الإسرائيلي انتهى مع انتهاء الكلام العربي والفلسطيني عن صراع الوجود، وإلى أن حلّ الدولتين انتهى تماماً بإرادة إسرائيلية لا فلسطينية. ربما يتعين التفكير بدءاً من الإقرار بذلك، والبحث عن اقتراحات وحلول لا تعود إلى مربع الصراع الأول، ولا إلى التمسك باتفاقيات ميتة وبوهم دولة فلسطينية “غير قابلة أصلاً للحياة” في الضفة وغزة.