عادت العلاقة بين تركيا و”حماس” إلى دفئها المعهود، بعد حالة فتور نسبي سادت في الأيام الأولى من عملية “طوفان الأقصى” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والتي كانت إحدى نتائجه الطلب من بعض قيادات الحركة، وعلى رأسهم رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنيّة مغادرة البلاد.
يرى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في الصراع بين إسرائيل و”حماس” الذي يدخل شهره الخامس، فرصةً لتحقيق تطلّعاته السياسية المحلّية والإقليمية وأهدافه الاستراتيجية، بدءاً من الفوز في الانتخابات المحلّية المقرّر إجراؤها في نهاية آذار (مارس) 2024، وصولاً إلى استعادة دوره كلاعب رئيسي في ملفّات المنطقة والقضايا الإسلامية.
لقاءات تركيّة مكثّفة مع قادة “حماس”
في أحدث اتّصال تركي- “حمساوي”، التقى رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية التركية “MIT”، إبراهيم كالين يوم السبت الماضي، بإسماعيل هنية، في العاصمة القطرية الدوحة.
ونقلت وكالة أنباء “الأناضول” الرسمية، أنّه تمّت خلال اللقاء مناقشة صفقة تبادل الرهائن والتطوّرات في غزة ووقف إطلاق النار مع إسرائيل وسبل إنهاء الحصار وتوفير الاحتياجات الإنسانية للشعب الفلسطيني.
وقالت الوكالة إنّ المسؤولَين أكّدا خلال اللقاء، أنّ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس هو أساس الاستقرار في المنطقة، وهو ما كرّره أيضاً وزير الخارجية التركي في لقاء تلفزيوني الأحد.
لقاء كالين جاء بعد أسبوعين من استقبال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لهنيّة في تركيا، للحديث في المواضيع ذاتها، حسب ما أعلنه الإعلام التركي آنذاك، وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر ونصف الشهر من انقطاع التواصل بين الجانبين، حين تحدّثا هاتفياً في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
تبدو العناوين المعلنة للقاءين تقليدية ومكرّرة في معظم المباحثات التي تشهدها الكواليس الدبلوماسية في الشرق الأوسط منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على غزّة، الذي أسفر حتى الآن عن مقتل أكثر من 27000 فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، وفق أرقام الجهات الصحّية التابعة لـ “حماس” في غزّة.
ولكن عودة السخونة على خط أنقرة- “حماس” في هذا التوقيت تعكس أهمية هذه اللقاءات بالنسبة لتركيا التي قطعت أشواطاً كبيرة على درب إذابة الجليد في علاقتها مع حليفتها الرئيسية في حلف شمال الأطلسي، الولايات المتّحدة الأميركية.
الأسبوع الماضي، استضافت باريس رؤساء مخابرات ومسؤولين كباراً من إسرائيل والولايات المتّحدة وقطر ومصر، في قمّة تهدف إلى إيجاد حلّ للصراع الذي باتت احتمالات اتّساع رقعته أكبر غداة الهجمات الأميركية على أهداف مرتبطة بإيران في سوريا والعراق واليمن.
وتحدّثت وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية عن إحراز تقدّم في باريس بشأن مفاوضات تبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس”، وسط تسريبات عن قرب التوصّل إلى اتّفاق محتمل لوقف الأعمال العدائية لمدة 45 يوماً، وإطلاق سراح المحتجزين المدنيين لدى “حماس” وفصائل فلسطينية أخرى، مقابل إطلاق إسرائيل سراح مئات من السجناء الفلسطينيين.
وفي حين أعلنت “حماس” أنّها منفتحة على أية مبادرة لإنهاء الحرب وتأمين إيواء النازحين، وإعادة إعمار غزة، وتحرير السجناء الفلسطينيين، تبدو تل أبيب، رغم الانقسام الحاد بين السياسيين والشارع، مجبرة على التراجع عن الأهداف عالية السقف التي أعلنت عنها كشرط لإنهاء حربها على غزة.
ويرى الكاتب والصحافي التركي فهيم تاشتيكين في حديثه إلى “النهار العربي”، أنّ تكثيف أنقرة من لقاءات مسؤوليها مع قادة “حماس” مردّه الرغبة التركية في لعب دور حاسم في الصفقة التي باتت قاب قوسين أو أدنى بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، مسلّحة بالرغبة الأميركية في الوصول إلى حلّ سريع للصراع القائم.
يقول تاشتيكين، وهو خبير في ملفّات الشرق الأوسط، ومؤلف العديد من الكتب السياسية الخاصة بالمنطقة، إنّ “الموقف الأميركي من حرب غزّة يبدو أكثر واقعية من إسرائيل، وتأمل واشنطن بدور تركي في عملية قبول “حماس” بالصفقة، سواءً من خلال تفعيل الضغوط على الحركة أو تقديم النصيحة والمشورة لها”.
بارومتر الموقف التركي
حاولت أنقرة منذ اليوم الأول من الصراع لعب دور الوسيط بالاستفادة من علاقاتها المميّزة مع “حماس” والمتعافية مع تل أبيب، لذا فهي تعاملت بدقة مع طرفي الصراع.
وتماشياً مع الرغبة التركية بأداء دور الوساطة، دعا الرئيس رجب طيب أردوغان، في خطابه أمام المؤتمر الاستثنائي الرابع لحزب العدالة والتنمية في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كلاً من إسرائيل و”حماس” إلى “ضبط النفس”، قائلاً: “نحن في تركيا، نحضّ كل الأطراف على التصرّف بضبط النفس في ضوء الأحداث التي شهدتها إسرائيل هذا الصباح، ونحضّهم على الابتعاد عن الخطوات المتهورة التي من شأنها تصعيد التوتر”.
دعوة أردوغان الطرفين إلى “الاعتدال” جاءت متوافقة مع المزاج العام التركي، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة “متروبول” التركية العريقة في الفترة بين 10 و16 تشرين الأول (أكتوبر) في 28 ولاية في البلاد، ميل غالبية الناخبين الأتراك إلى الحياد (34.5%)، أو لعب بلادهم دور الوسيط في الصراع (26.4%)، والنأي بالنفس عن دعم “حماس” مع التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين (18.1%).
نجح أردوغان من خلال هذا الموقف في تقليل الخسائر في العلاقات التركية-الإسرائيلية، وذلك من خلال معارضته لقتل المدنيين في كل من إسرائيل وغزة، داعياً أيضاً إلى إنشاء دولة فلسطينية في إطار حلّ الدولتين، كما تحدّث مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ وزعيم السلطة الفلسطينية محمود عبّاس، مقترحاً وساطة بلاده.
ومع ارتفاع أعداد القتلى الإسرائيليين نتيجة هجوم “حماس”، وغداة انتشار مقطع فيديو لأداء إسماعيل هنيّة “لسجدة الشكر” في مكتبه في تركيا، طلبت أنقرة من زعيم الحركة وقيادات الصف الأول، اللجوء إلى قطر لبعض الوقت، خشية عدم قدرتها على تحمّل تبعات هذه الاستضافة بالتزامن مع ردود الفعل الغربية الغاضبة والمندّدة بالهجوم.
لكن، هذا المزاج “المحايد” للرأي العام التركي بدأ بالتحوّل بعد القصف الإسرائيلي للمستشفى الأهلي بغزة في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ما دفع بأردوغان، الذي استخدم خطاباً أكثر توازناً في الأيام الأولى للأزمة، إلى تصعيد خطابه المعادي لإسرائيل، خصوصاً مع تلاشي آماله في لعب دور في الملف الذي بات على الطاولة القطرية- المصرية.
برأي عمر تاشبينار، وهو أستاذ كلية الحرب الوطنية الأميركية والأستاذ المساعد في كلية الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكنز، أنّ “ما يميّز أردوغان، واقعيّته وانتهازيّته السياسية إلى حدّ المكيافيلية. من هذا المنطلق يمكن فهم تغيّر مواقفه بعد الأيام الأولى للهجوم، حين قتلت “حماس” أكثر من 1000 إسرائيلي، وهو أمر لم يحدث قط في تاريخ إسرائيل، وكانت ردود فعله شبيهة لتلك الصادرة عن الإمارات العربية المتحدة والأردن”.
واضاف: “أردوغان أبقى عيناً على الديناميات في الخليج، وعينه الأخرى على العلاقات مع إسرائيل، لكن مع تغيّر الظروف، أي مع مقتل عشرات آلاف الفلسطينيين، غيّر أردوغان موقفه بما يتماشى مع الرأي العام التركي، باعتباره سياسياً شعبوياً يمسك بنبض الشارع.
قال أردوغان في كلمته أمام اجتماع المجموعة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية في 25 تشرين الأول (أكتوبر)، إنّ “حماس ليست منظمة إرهابية، بل حركة تحرير ومجاهدين تحاول الدفاع عن أرضها”، معلناً إلغاء زيارته المقرّرة إلى إسرائيل، وأنّ بلاده ليس لديها مشكلة مع دولة إسرائيل، لكن إسرائيل “تتصرّف كتنظيم (إرهابي)” ضدّ فلسطين.
باب السويد
بعد ساعات من إعلان “حماس” شرعية، عكس رأي الأطلسي، وقّع أردوغان على بروتوكول انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي وأرسله إلى البرلمان للتصويت عليه.
ويشرح تاشتيكين أنّ “أردوغان الذي خالف حلفاء تركيا في شمال الأطلسي في مسألة توصيف “حماس”، قام باسترضائهم من خلال إقدامه على الخطوة الأولى على طريق انضمام السويد إلى الحلف”.
مع تزايد أعداد القتلى الفلسطينيين وارتفاع الأصوات المندّدة بالمجازر الإسرائيلية في غزة، شدّد أردوغان من لهجته الاتهامية لإسرائيل، وفي الوقت ذاته سعى إلى تحقيق مصالحه، ولفت الانتباه الدولي بعيداً من الاستهدافات التركية لحزب العمال الكردستاني في العراق وقوات سوريا الديموقراطية ووحدات حماية الشعب، التي تعرّفها أنقرة بأنّها امتدادات للحزب المحظور في شمال شرق سوريا.
اللهجة التركية الحادة ضدّ إسرائيل جاءت مدعومة بتصويت الأمم المتّحدة الداعم للفلسطينيين، وخطوة جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية، والأهم مساعي البيت الأبيض لنزيف الأصوات المؤيّدة لبايدن بين الناخبين الديموقراطيين، خصوصاً الشباب، من خلال إيجاد حل سريع للصراع.
يقول تاشتيكين: “الموقف الأميركي من الحرب واقعي ويتناقض مع الموقف الإسرائيلي الأقرب إلى السوريالية. لذلك فهي تعوّل على الدور التركي في إقناع حماس”.
وعن لقاء كالين يضيف تاشتيكين: “المفاوضات انتقلت من القاهرة إلى باريس. وباستثناء قطر، باقي الأطراف تشارك على مستوى مسؤولي الاستخبارات، من هنا جاء دخول كالين الذي يرأس الاستخبارات الوطنية على خط إقناع حماس”.
ويتابع تاشتيكين: “لا نعرف بالضبط ما المطلوب أميركياً من تركيا، لكن يبدو أنّ هناك رسائل متبادلة عبر القنوات الاستخباراتية، وبالنسبة لواشنطن فإنّ تنسيقاً بين تركيا و”حماس” أفضل من التنسيق بين طهران وحماس”.
يبرز عاملا الاقتصاد والانتخابات بشكل كبير في السياسات التركية مؤخّراً، الخارجية منها، وخصوصاً الداخلية، على أعتاب الانتخابات المحلّية بعد أقل من شهرين.
من جهة يجد الرئيس التركي نفسه مضطراً إلى استرضاء القوميين الأتراك والمحافظين الدينيين لضمان دعمهم له في الانتخابات المحلية المقبلة وسط معارضة منقسمة بشدّة، ومن جهة أخرى فإنّه بحاجة إلى رأس المال الأجنبي والاستثمارات الأجنبية للحفاظ على الاقتصاد من دون انتكاسات، حتى موعد الانتخابات على الأقل.
يعتقد تاشتيكين أنّ “إعادة إعمار غزة”، وهي إحدى شروط “حماس” للموافقة على أي صفقة، قد تكون كلمة سرّ النشاط التركي الدبلوماسي والاستخباراتي على خط الحركة. ويقول: “لا يمكن تصوّر عملية إعادة إعمار من دون تركيا”. وقد تكون الوعود الأميركية لأنقرة في هذا الاتّجاه دفعت فيدان ومن بعده كالين للانخراط بشكل نشط في إقناع هنيّة للقبول بصفقة باريس، وذلك قبل أيام من توجّه الأخير إلى القاهرة لمناقشة المقترح مع المسؤولين المصريين.