ذات سهرة على شاطئ بيروت، لفحت جليسي اليمني ذكريات الوطن، وقال “وأنت تمضغ القات، تصير بطلاً أسطورياً، تصبح سيف بن ذي يزن”.
لكن تأمل صور Go-Pro، التي لم ينس الحوثيون وضعها على عمائمهم وهم يحتفلون بالقرصنة “السياحية” للسفينة المخطوفة، يجعلنا نعتقد أن القات البادي تحت خدودهم ليس السبب الوحيد لغبطتهم، كما لم تكن غبطتهم بسبب “نصرة فلسطين”، فالسفينة العزلاء لم تكن إسرائيلية، وليس مفهوماً كيف يمكن أن تكون قرصنة هذه السفينة خطوة على درب “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة علي اليهود، النصر للإسلام”.
حقيقة الأمر أن الجدوى الجوهرية التي جناها الحوثيون من هجماتهم كانت بارتقائهم من الدرجة الرابعة لشركاء الجمهورية الإسلامية، إلي مصاف الشريك الرئيسي. فسرعان ما أصبح الحوثيون جزءاً مركزياً، بل عضواً محورياً فيها من “محور المقاومة”.
بالنسبة إلى الحوثيين، تأتي هذه الشراكة في الوقت المثالي. بحسب الإعلام الحوثي، يعتقد الحوثيون أنهم فرضوا على التحالف العربي والتحالف الغربي وعلى إسرائيل الإذعان لحضورهم. ومن خلال إغلاق البحر فعلياً أمام سفن الشحن، فلقد تمكنوا من تعطيل التجارة العالمية واكتسبوا اهتماماً دولياً غير مسبوق. ولا يهم في هذا السياق أن لا يكون لانتصاراتهم أي مغزى عسكري، فالصمود في منطق الثوريين هو مجرد البقاء على قيد الحياة، رغم المبيدات المستخدمة.
وفي المقابل، لطالما سعت إيران لفرض هيمنتها على أمن الخليج العربي وبحر العرب والبحر الأحمر، بهدف التهرب من العقوبات وإبعاد البحرية الأميركية من ناقلاتها النفطية.
لا تنفصل قرصنة الحوثيين عن هدفهم المركزي في الاستيلاء النهائي على البلاد. فالأمر لا يتعلق بتوسيع شعبيتهم، ولا بانتفاخ شعورهم بالقوة أمام دول التحالف العربي والتحالف الغربي فحسب، بل يأمل الحوثي أن يفوز بالدولة اليمنية من دون منازع وأن يحول الدولة الأكثر فقراً في العالم العربي إلى قوة عسكرية إقليمية يتجنب الجميع شرها. وفيما تتخبط الولايات المتحدة في تحالفاتها التي تنقلب رأساً على عقب، يوسع الحوثي وتوسع إيران تحالفاتها ميدانياً. في النهاية فإن “السياسة هي فن التحالف”.
على جدار مدينة إسطنبول القديمة تم تعليق صورة عبد الملك الحوثي وقد كتب تحته “كلنا يمنيون”، وذلك بعد أيام من تصنيف الحوثيين في الولايات المتحدة جماعة إرهابية. هل هي حماسة لغزة أم احتجاج على عدم دخول تركيا للحرب؟ بالنسبة إلى الحوثي، ليس ثمة مبرر أعظم لغبطته. فبعدما استتب وضعهم شمال اليمن، عمد الحوثيون إلى تعزيز المصالح الإيرانية في كل أنحاء المنطقة. وشنوا هجمات صفيقة ضد منشآت النفط السعودية والإماراتية. ساعد الحوثيون إيران في تلبية حاجاتها غير العسكرية. بل ارتفع مستوي التنسيق الحوثي الإيراني ليتوسع تهريب النفط الإيراني ويزيد تدفق الأسلحة للحوثيين.
ويشير قائد كبير في البحرية الأميركية لوكالة “أسوشيتد برس” إلى توسع هذا التحالف: “إيران متورطة مباشرة في الهجمات البحرية الأخيرة للحوثيين، بما في ذلك عن طريق تمويل المقاتلين الذين نفذوها وتدريبهم”. فيما يعلن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي في عام 2019: “كلما قاومنا، حققنا نتيجة إيجابية”.
تستعد إيران للمضي قدماً مع الحوثيين في البحر الأحمر، بغض النظر عن المخاطر. بذلك، تتماشى التطلعات الحوثية مع حملة إيران لتعزيز قدراتها البحرية لتزيد دعمها العسكري والاستخباري للحوثيين، بل يأمل الحوثيون من كل ذلك توسيع نفوذهم في اليمن ذاته، والاستيلاء على بقية البلاد. وإذ يدير الثوريون الحوثيون ظهرهم للمأساة العميقة في البلاد، يصبح تصدير فشلهم نحو “فلسطين” مخرجاً ضرورياً. لقد أتقن زملاؤهم الثوريون الآخرون فن تصدير أزماتهم نحو “فلسطين”، فلمَ لا يفعلون هم الشيء نفسه؟
يحتاج اليوم، 24 مليون شخص في اليمن – أي أكثر من 80% من السكان – إلى المساعدات الإنسانية والحماية، لمجرد البقاء على قيد الحياة. ومن الواضح أن الجوع والمجاعة والفقر المدقع والخراب وانهيار الخدمات والبنى التحتية والتعليم والنزوح لم تكن بسبب القصف ولا الحصار الإسرائيلي، بل جاءت بسبب استيلائهم على السلطة وسعيهم لإقصاء المكونات الأخرى للشعب اليمني. وبعدما هدأت الحرب اليمنية بفضل وقف إطلاق النار، صار الحوثيون مطالبين بالوفاء بوعودهم، والاستجابة لمتطلبات السلم الأهلي، والمصالحة الوطنية اليمنية، ودفع البلاد على مسار التنمية والإصلاح الخ.. فلقد تصاعدت المطالب الشعبية بالتغيير، وزاد بشكل منقطع النظير الضغط من أجل تخفيف سطوة الميليشيات الحوثية وفسادها في الحياة اليومية.
ثم جاءت ذريعة “فلسطين” نعمة من السماء على الحوثيين، يأملون أن تكون مخرجاً أمام فشلهم التنموي والسياسي الراهن. والأنكى، أن الحوثيين، إذ يغامرون بتوسيع الصراع مع الغرب والولايات المتحدة، يدفعون باليمن نحو المزيد والمزيد من البؤس والتمزق. إنهم يستمرون في الحفر في الحفرة التي وقعوا فيها.
وفقاً للبيانات الأممية، يعيش نحو 6.7 ملايين يمني في ملاجئ، ويفتقر نحو 12.4 مليون شخص لمياه الشرب الآمنة، ويزداد خطر الإصابة بالأمراض المعدية، ويرتفع معدل وفيات الأطفال ليصبح من أسوأ المعدلات في العالم، ويعاني أطفال اليمن أعلى معدلات سوء التغذية على الإطلاق، بل يعاني 2.2 مليون طفل دون سن الخامسة “التقزم” المتوسط إلى الشديد. وفيما يواجه 18.2 مليون شخص في اليمن فاقة شديدة، فإن 17.6 مليون شخص سيواجهون 2024 انعداماً حاداً للأمن الغذائي.
وبينما يحتاج اليمن الآن لأكثر من 3.34 مليارات دولار، كي يتمكن من البقاء، ينفق الحوثيون مليارات المساعدات الإيرانية والدولية على مغامرات عسكرية فارغة. وينشر محمد علي الحوثي على تويتر: “يجب أن تفهم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أننا في وقت الانتقام، وأن شعبنا لا يعرف الاستسلام” ليضيف: “إذا كنت تحمل السلاح، فإن الشعب اليمني يحمل السلاح أيضاً، وإذا كان لديك قوة، فنحن أقوى مع الله”.
في نهاية الأمر، إذ تعقص النملة الفيل، فإنها تراهن على أنه لن يهتم بسحقها، بل سيكتفي بطردها بعيداً، وتلك قمة سعادتها. إذ لا تنتمي غبطة الحوثي لفلسطين، ولا لنصرة المستضعفين ولا لمصلحة الشعب اليمني، بل لا يكفي القات وحده تبريراً لهذه الغبطة التي تحدث صديقي عنها، بل تبدو قمة الغبطة الحوثية هي في مجرد البقاء والتطفل على جسد الملايين من اليمنيين من دون أن يقرر الفيل سحقهم.