هي دعوات جادة إلى التمتع بالطعام السوري في سوريا، وبعض الفيديوهات على يوتيوب يزيدها إغراءً بالقول أن بإمكان الزائر أو السائح أن يحظى بالفطور الشامي ذاته الذي تناوله أبو عصام في مسلسل باب الحارة. حسب اليوتيوبر الذي يقدّم الشرح بلهجة سعودية، تبدأ عروض إفطار “باب الحارة” العارم بـ55 ريالاً سعودياً، ويتضح من لهجته أنه سعر مشجِّع خاصة لشريحة من مواطنيه ترى سوريا من منظار المسلسل التلفزيوني العتيد. يوتيوبر آخر أردني يقدّم عرضاً تفصيلياً لأسعار الوجبات والسندويتش في دمشق، فيذكر سعر كل منها بالعملتين، ثم يدعو متابعيه لحفظ التسجيل ومشاركته مع الأصدقاء ليستفيدوا منه عندما يسافرون إلى الشام.
حتى الآن تطغى الإعلانات الأردنية على هذا النوع من تحفيز السيّاح على الذهاب إلى سوريا والتنعّم بأسعارها الزهيدة، وهناك على سبيل المثال تسجيلات خاصة بأسعار الفنادق ذات التصنيف السياحي المرتفع، الرخيصة بالمقارنة مع الجوار، والتي تتوفر فيها الكهرباء على مدار 24 ساعة يومياً، وهذه ميزة ثمينة في سوريا. الإقبال الأردني على السياحة الرخيصة لا يفسّره فقط تجاور البلدين وسهولة التنقّل، وإنما تفسّره أسبقية الأردن في التطبيع مع الأسد وفتح الحدود. أما الإعلانات التي تستهدف الجمهور السعودي فهي حديثة العهد، وقد تشهد انتعاشاً في الأسابيع المقبلة على خلفية بدء نشاط السفارة السعودية في دمشق.
وكانت زميلتنا في “المدن” جنى الدهيبي قد استخدمت تعبير “السياحة العلاجية” كعنوان فرعي، ضمن مقال بعنوان “اللبنانيون يتجهون إلى سوريا للعلاج: ثلاثة دولارات أجرة الطبيب”. المقال يسلط الضوء على معاناة اللبنانيين الذين يضطرهم غلاء الخدمات الصحية مع تدهور الوضع المعيشي إلى الذهاب للاستشفاء في سوريا، وتخطّت هذه الظاهرة كونها خياراً فردياً غير منتظم، فانخرط سائقو سيارات الأجرة بين البلدين في توجيه المرضى اللبنانيين إلى الأطباء والمستشفيات السورية، والأخيرة بدأت تقدّم للبنانيين عروضاً مغرية لتشجّعهم على العلاج وإجراء العمليات الجراحية فيها.
قد يصادف أيٌّ منا إعلانات تصبّ في المنحى التسويقي ذاته، وتروّج لبلدان غير سوريا. هناك على سبيل المثال إعلانات عن سياحة علاجية في تركيا، تحتل فيها زراعة الأسنان أو الشعر مرتبة متقدّمة لأنّ العروض المقدَّمة أرخص من نظيراتها الأوروبية. وهناك تمايزات في الأسعار ضمن الاتحاد الأوروبي نفسه، ما يجعل دولاً منه مثل رومانيا مقصداً للراغبات والراغبين في إجراء عمليات تجميل. وبالطبع ثمة آلاف المواقع الإعلانية على الانترنت التي تروّج لسياحة رخيصة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، بل إن تقديم أسعار أدنى هو جانب أساسي معتبر في المنافسة بين الوجهات السياحية حول العالم.
لكن التنافس في اجتذاب الزبائن بين اقتصاديات طبيعية مختلف عن الترويج لسوريا كبلد زهيد الكلفة بسبب الانهيار الاقتصادي والمعيشي، لا بفضل التخصص في مجال معين أو بفضل الوفرة في القطاعات الخدمية وما يتصل بهما من سوق العمل. ففي المثال اللبناني الذي سبق ذكره يمكن القول أن بعض اللبنانيين كان يقصد سوريا للاستشفاء وأحياناً للتسوّق قبل عام 2011، وكانت أجرة الطبيب السوري وقتها تعادل 10 دولارات، والأهم أن السوري كان أقدر على دفعها من قدرته الآن على دفع ما يعادل 30% من قيمتها السابقة. المؤلم في هذا المثال تحديداً أن أعداداً متزايدة من اللبنانيين تعجز عن دفع أجور الاستشفاء في لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي، إلا أن هؤلاء أنفسهم لديهم القدرة على الذهاب إلى سوريا في “سياحة علاجية” لأن الانهيار السوري الأفظع هو الذي يرحّب حتى بضيق إمكانياتهم.
الفيديوهات التي تحفّز الأردنيين وسواهم على سياحة رخيصة في سوريا أصحابُها غير معنيين بالسؤال عمّا جعلها رخيصة هكذا، ولا بالانتباه إلى أن أهل البلد بنسبتهم الساحقة صاروا دون خط الجوع. ومن الواضح أن ازدهار هذا النوع من السياحة عديم الاكتراث بمعاناة أهل البلد وبالذين تسببوا بها، والمفارقة المُرّة هي في كون انعدام الحساسية شرطاً لازماً وضرورياً لقدوم أولئك الزبائن كي ينفقوا ما قد يكون بخساً من أموالهم وذا قيمة للبائع السوري.
من المرجَّح أن غالبية الذين يعملون في الأماكن التي يرتادها الوافدون لا يحصلون على أجر كافٍ للعيش، وهو مبرر إضافي للدعوة إلى مقاطعة تلك المنشآت “السياحية” لو أن الظروف برمّتها تقارب ما هو معتاد. أما في الحالة السورية فلا أحد يستطيع مطالبتهم بعدم الذهاب إلى هناك وبمقاطعة السياحة العلاجية أو الترفيهية، لأن ما يدفعونه قد يساهم ولو مساهمة ضئيلة في تلطيف البؤس السوري. إننا إزاء حالة يصبح فيها الخراب وتبعاته مصدر إغواء سياحي، ولا يُستبعد أن يُستثمر الخراب مباشرة لاجتذاب سوّاح فضوليين يريدون معاينة آثار الحرب في سوريا والتقاط صور تذكارية في أماكن شغلت صدارة نشرات الأخبار يوماً ما.
الكارثة الكبرى هي أن هذه الوضعية لن تتغير إلى الأفضل في المدى المنظور، فلا وجود إطلاقاً لمؤشّرات استعادة الاقتصاد السوري عافيته ولو تدريجياً وببطء رغم تراجع الأعمال الحربية، خاصة تلك التي تطاول أماكن سيطرة الأسد. في الأصل، بالقياس إلى تجارب سورية سابقة أقل عنفاً، لن يعود أصحاب الرساميل الكبرى الذين غادروا في السنوات الماضية، وقدوم غيرهم يتطلب بيئة استثمارية جاذبة، وهذا شرط مؤجّل التحقيق، بل يكاد يستحيل تحقيقه مع بقاء الأسد وسيطرته مع المقرّبين منه على مفاصل الاقتصاد.
في أفضل أطواره سابقاً، كان الاقتصاد السوري يفتقر إلى القدرة على المنافسة، بسبب معوقات سياسية-إدارية تثقل على كاهله. ورغم تلك الكوابح كانت سوريا ذات اقتصاد متعدد المصادر مقارنة بالعديد من دول الجوار ودول المنطقة، فالصناعات الرئيسية كالنسيج دخلت البلاد مبكراً وصار لها إرث وخبرات محلية، وللزراعة والتجارة إرث موغل في القدم. ويجوز القول أن قطاعي الخدمات والسياحة كانا في مرتبة اقتصادية متأخرة لا تواكب المستجدات في العالم، ولا تطورهما في الجوار اللبناني أيام الازدهار.
الآن يُنذر تقدّمُ السياحة الترفيهية والعلاجية إلى الواجهة بتغيير هيكلي طويل الأمد في الاقتصاد السوري، إنما ليس على قاعدة تحسين البنية الخدمية ككل أو تلك المتصلة بالترفيه والاستشفاء، بل فقط على أساس تقديم خدمات أرخص ثمناً. للتأكيد، لا تندرج الحالة السورية ضمن قسمة دولية للعمل فيها الكثير من الغبن لبلدان فقيرة ذات عمالة رخيصة؛ لاسترخاص السوريين عنوان محلي بدأ باسترخاص دمائهم.