رحتُ للهذيان أسأله؟
كم عمرٌ يرتوى
ومتاهةٌ تتسربلُ طنين الذاكرة
كانت المهاجع للتو قد أعلنت استقبالها للساكنين الجدد.
آثار الاسمنت “المقوى” عالقة في “الحمامات”..
ستأتي “الدفعات الاخرى” من فرع التحقيق و سجن المزة. “لم شمل” للحزب والمكتب السياسي.
أيضا معتقلون جدد فلسطينيون تحت اسم اللجان الشعبية، كانوا مع الحزب بالفرع، هناك تداخل لدى البعض بين كونه لجان وحزب عمل في الآن نفسه.
باتَ العدد قرابة المائة والخمسين.
وزعونا على المهاجع التسعة؛ بقي العاشر لخضر جبر المعاقب.
بدأت ورشات الحف، خاصة التواليتات؟
بداهة إن بقيت تلك الآثار سوف تختلط مع “الرواسب البشرية”؛ تعطي رائحة المكان “ميزات جديدة”.
سمحوا لنا بوابير غاز (لكل مهجع بابور). في تدمر كان الكاز سيد الموقف.
ولم تزل الكتب ترافقنا؛ إنه المكسب الكبير في السجن.
هناك باحة تنفس، نخرج مع بعض ككل الجناح إليها، نصف ساعة في اليوم.
سجن صيدنايا بهذه المرحلة من التأسيس، كان يعامل كل الانتماءات والتهم معاملة واحدة، “كأسنان المشط”.
يمضي الشهر والنصف ومعه كم يوم (16 تشرين الثاني) الذكرى السنوية “للتتويج”..
أصوات البافلات عالية تغني للقائد الرئيس؛ المطربون و المطربات من سوريين وسوريات، وأهل لبنان أيضاً، جالت قريحتهم بشكر الله ونعمته: “بالشكر تدوم النعم”.
إحسان عزو وآخرون، أعلنوا صرخات الاحتجاج: دق على الأبواب. اخفضوا الصوت. لا نريد أن نحتفل مثلكم..
يأتي المساعد على المهاجع، كل من يقف قرب الباب محتجاً، يخرجه الى “برّا”..
إحسان كان بأحد مهاجع منتصف الجناح..يصرخ بوجه المساعد كما كان قبل قليل..يزمجر المساعد ومعه “الرفقة”: اطلع ولاك كذا وكذا، من “حياء” الألفاظ وتثاؤبها على الملأ..
الان لديهم قرابة العشرة من شباب الحزب، ومعهم إحسان؟
إحسان مريض تسرع قلب، تصل نبضات القلب لديه أضعاف المعدل الطبيعي، كأقصى حد 100 نبضة بالدقيقة، يحتاج دائما للدواء.
بدأنا نشعر بالخطر عليه، خاصة من معه في المهجع؛ الأبواب مغلقة.
لم يأخذ دواءه معه. لم يتركوا له فرصة الوقت.
في المساء، كان يوم جمعة، الساعة الثامنة، يأتي بركات العش (مدير السجن) وصحبه من العساكر. يمضي إلى كل مهجع قرابة النصف ساعة مبتسماً ابتسامة صفراء. يُسأل عن إحسان، مع التأكيد أنه مريض ويحتاج للدواء، يتلعثم، لكنه يحاول “الثغثغة”: نقلناه إلى المشفى، وضعه يتحسن.
بعد يومين أو ثلاثة تأتي زيارة لعباس (أبو حسين)، وهوراجع أمام الجناح، عيناه تترقرق بالكلام: إحسان استشهد يا شباب، دُفنَ بمقبرة الدحداح. سمحوا لأهله فقط حضور جنازته، مع التعهد بعدم الإشهار أمام الملأ. ربما سمحوا لهم القول. مات إثرَ جلطة قلبية وهو في المهجع!!
تعرفت على إحسان في المؤتمر وكان حديث العهد في الحزب، عمره واحد وعشرون عاما.
ثم التقينا بفرع التحقيق عام 85، من معتقلي حملة 84. لم يكن قد ظهر عليه المرض، نشيطا مفعم بالحيوية، خضع لتعذيب شديد أثناء التحقيق.
سنلتقي مرة أخرى في تدمر (آذار 87)، جاري في العازل. لاحظت أنه أكثر توترا من السابق. مع حفاظه على طبيعته الاصلية من صدق وود، ليست له خصومة مع أحد.
ربما هذا التسرع القلبي، جعله ينتظر القلق؟
لم يكن على موعدٍ مع مصيره؛ لم تأتِه “العرافة” تخبره: اجتنبْ هذا الجدار؟؟
إحسان يقف وحيداً في الزنزانة: قصقصْ حروفكَ “ياأبي”، أنا في سردابٍ أختلجُ حنانيكَ..صوت مزماركَ يلثمُ أُذناي..- رحل أبوه منذ زمن طويل- تطيرُ الفراشات على أنين الباب المثخن بالصرخات..جسدٍ يرتوي تابوت الرحيل، دُفنتْ معه مراثيَ الوداع..
سيكون لهذا الحدث تداعيات ترسم ملامح جديدة للتوزع “الديمغرافي” بيننا وبين أهل الحزب؟
قرر الحزبيون الإضراب احتجاجاً، على هذا السلوك من إدارة السجن؛ إهماله دون أخذ الدواء، مما سبب في وفاته.
أما نحن أهل “الملل والنحل”، ليس هناك رأي واحد؟
بعدَ طول معاناة” عبر الشبك المهجعي، توصلنا لصيغة إضراب ليوم واحد فقط تحت عنوان حزناً وحداداً.
صباح التنفيذ تم إبلاغ الشرطة، بعد أقل من نصف ساعة. دخلَ مدير السجن (بركات العش) مدججاً بعناصره ومساعده؛ تشعر أنه فقد أعصابه، أظهر عدوانية شديدة: كل واحد مأضرب يجيب أغراضه ويطلع لبرّا. ينتقل من مهجع إلى آخر..
-لم نعهده هكذا في سجن تدمر أو هنا عبر هذا الشهر والنصف-
نحن التاركين أحسسنا بالمباغتة، على حين غرة. مع ذلك، خرج البعض مع المضربين إلى الطوابق والاجنحة الاخرى؛ السجن بهذه المرحلة، كانت أجنحته شبه فارغة.
ستبدأ محطة جديدة مغايرة ومختلفة عن “السابقات” من التجربة:
بقينا في جناح الألف يمين؛ سيغدو عنواناً للتاركين.
بعض الحزبيين يسمونه جناح “المهرولين” نحو الباب وإخلاء السبيل!!
عددنا الآن ستون: ستة مكتب سياسي. ثلاثة اتحاد نضال شيوعي؛ منظمة صغيرة ،كانت كمثل خلية في الحزب الشيوعي اللبناني، هم سوريون وكان وجودهم في لبنان؟
أمن الدولة اعتقلهم “بعجقة” اعتقالات 80. وربما حاولَ الاشاعة أنهم خاضوا دورة عسكرية في لبنان. (ابراهيم أسعد، حمزة الفاضل، وجدي مصطفى).
انضم للجناح أيضاً ماسمي باللجان الشعبية: ظهر أثناء انشقاق (أبو موسى وخالد العملة) عن ياسر عرفات، وتداعيات ذلك الصراع الدموي. إنما هذا التنظيم (اللجان الشعبية)، مجموعة شباب ماركسيين منهم من اعتبر إمكانية العمل التنظيمي داخل حزب العمل الشيوعي في سوريا، ومنهم من اكتفى بانتمائه للجان فقط.
عددهم خمسة عشر (جمال ومازن. عبد الكريم. ياسر. موفق. محمد. علي. صلاح. سليمان. بسام. فادي. رشيد..وبسام مقاري).
اثنان بقي مع الحزبيين (علي وراد. فواز ونوس).
أعطونا معهم أربعة مهاجع. هم في المهجع السادس. نحن موزعون سابع، ثامن. تاسع.
ايضا المهجع العاشر، المقدم خضر جبر؟
وضعوه وحيداً تنفيذاً لعقوبته في سجن المزة؛ اتهمَ أنه يراسل التنظيم. وضعوه هناك في زنزانة.
معتقلاً منذ عام 77. مع ثلاثة آخرين (خلية عسكرية): صلاح سليمان/ عميد، محمد مصطفى معتوق/ رائد، طارق شبيب/ ملازم أول.
لم يفرج عنهم في 4 شباط 80، الذي شمل كل معتقلي الرابطة آنذاك.
حاول البعض من الشباب التذكير بهم، أثناء الإفراج، كان جاوبهم بالتسويف والمماطلة؟
وجود ضباط برتب عالية في تنظيم معارض وخاصة انه شيوعي، خط أحمر وهو “مس بالمقدسات”.
يخرج فقط صلاح سليمان بعد أشهر قليلة؟
كان هناك تجمع لاتحاد شبيبة الثورة: حيث المسلسل اليومي -شهر آذار 80- لخطابات الرئيس، إبان اشتداد الصراع مع الإخوان المسلمين.
ابنته في المرحلة الثانوية – كانت ضمن هذا التجمع- بعد أن أنهى الخطاب، وقفتْ أمام الملأ: سيدي الرئيس “بدي” بابا منكَ، مسجون في سجن المزة. “عالحارك” طلب من “الحشد” أخذ الاسم. بعد اسبوع كان مفرج عنه.
بعد أن هدأتْ الحالة في الألف يمين، طالبنا بعودة خضر جبر الى المهاجع. وافق مدير السجن.
اختار المهجع السابع لوجود صديقيه الضابطين (مصطفى معتوق. طارق شبيب).
بدأتْ أعراض المرض تظهر عليه: اصفرار في الوجه ووهن عام. انتبه لحالته الدكتور بسام (معتقل بتهمة الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي). وكان معه في نفس المهجع. “همس” للبعض في المهجع: حالة أبو صخر (خضر جبر) غير مطمئنة، لدي شكوك أن هناك حالة خطرة. لذلك سأحاول شرح الحالة لإدارة السجن، كي يحولوه الى المشفى.
بعد اسبوع تمت الموافقة: هناك كان وحيداً، بجواره الليل يطوي صفحات الفجر بعيداً..
عاد ومعه تقارير المشفى: لن يعيشَ طويلاً؛ تجتمع لجنة طبية أمنية، تقترح إخلاء سبيله، هو بين الموت والحياة “أيام معدودات”: مرض لئيم، سلاّل، انتشر، أغلق النوافذ، لا بصيص حتى لشمعةٍ مطفأةٍ..
يوم الوداع (الإفراج عنه). مشينا برفقته -كان الجناح يقف مجتمعاً- حتى الباب الأخير.
قال لنا وضحكة ترافقه: سوف أعيش وأعود لزيارتكم!
التقى زوجته وأطفاله بعد احد عشر عاماً.
رقدتْ عيناه على الحصير العتيق.. كان ضباب الحيَّ ينثرُ رذاذاً مكفهّراً!1
لم يتلُ النعشُ صوتَ الكفن.
هذه الأيام كانت حبلى بالتوترات؛ لأول مرة تغيب سلطة الحزب جسداً. رغم أنه قد مضى على تركنا له أربع سنوات ونيف، لكننا بقينا ضمن المكان والهيئة الاجتماعية الواحدة، هذا بحد ذاته عامل “مسكّن”، كي يبقى المكبوت في حيزه الضيق.
الآن انفجر المكبوت. أفترض أن ذلك أيضاً عند بعض الحزبيين المتشددين، هم أيضاً يعلنونَ الصوت عالياً: لا نريد الحياة مع هؤلاء “المهرولين”..
عندما تجد خصما لك، يساعدك في تفريغ الشحنات العدوانية، وإن غاب سوف تبحث عن البدائل؟
ربما هي آلية دفاعية لاشعورية، تعمل على حالة التوازن المفتقدة لصاحبها أو للجمع.
أما في ظل هذا التموضع “الجداري”، فإنّ “الشحنات العدوانية” سوف تتلو “حميميتها” على أقرب “العوازل”..
باتت الهيئة العامة هيئات مهجعية؛ كل مهجع له هيئته العامة من ناحية الحياة المشتركة مع بعض الحالات، أطلقت على نفسها: “التمفصل” أي عدم المشاركة بالهيئة.
تعاود الحياة السجنية مجراها، تجترح الممكنات للخروج من “القوقعات” المهجعية:
ارتأى البعض (عماد أبو مشعل)، أنه يمكننا العمل على إصدار مجلة داخل هذه الجدران الصيدناوية.
المتاح هنا أكثر بكثير من بقية الأماكن التي عشناها (جناح مفتوح نهارا، يمكنك التحرك كيفما تشاء. لأول مرة نحصل على الورق الأبيض الطبيعي للكتابة، مع أقلام حبر ناشف ورصاص.
أبو مشعل بطبيعته وخبرته مع الصحافة، يحاول أينما وجدَ، أن تحضر الكتابة الورقية.
تتزامن تلك الفترة مع تزايد الاهتمام، بالكتاب الفلسفي و مدارس النقد الأدبي الحديثة، خاصة تلك التي أُطلق عليها ما بعد الحداثة: (بارت، فوكو، دريدا..). ثم أعداد الفكر العربي المعاصر، وأختها الكبرى لاحقا (العرب والفكر العالمي).
يأتينا أيضا ترجمات المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام للتراث الهيجلي، كاملاًّ!
-صار بدها هز كتاف-
من الأهمية بمكان القول: بدأنا نتعرف على مايسمى متعة القراءة؟
-بداهة لا ينطبق ذلك على الكل-
محاولة التخلص من الطريقة القديمة: ذات الطابع السجالي والمبنية على قاعدة فلسفية، ثنائية التصنيف :مثالية/ مادية.
كيف كنا نقرأ؟
أتكلم عن نفسي -“الأمارة بالسوء”- شكلَ لي وجود شباب اللجان الشعبية (المهجع السادس)، فرصة جديدة لنمط مختلف من الكتاب.
يمكن الحصول عليه عبر زيارات الأهل الشهرية. كانوا -بحكم وجودهم بدمشق- يواظبون على الزيارة، الشباب يطلبون منهم الكتاب المميز. حتى أنهم يذهبون لمعرض الكتاب -في موسمه- كي يحصلوا على العناوين الجديدة.
-لطالما كان جمال ربيع الأكثر خبرة بأماكن تواجد الكتاب-
اعتدتُ طيلة فترة السجن بالفرع وتدمر -حسب المتاح- أن أقرأ مع الآخرين عبر شكل أطلقنا عليه اسم الحلقات؛ ربما في مخيالنا الجمعي مسكونين بالتسمية (الحلقات الماركسية مثلاً).
تجددت الفكرة هنا في صيدنايا، إنما بزخم أكثر وهمة ونشاط عاليين.
شارك بهذا النشاط قرابة الخمسة عشر، إن لم يكن أكثر.
بدأتْ تختمر بعض الأفكار أكثر من السابق؛ أولى الصرخة على يقيننا و “مذهبنا” الذي جرت العادة بخطابه: أنه كلي القدرة لأنه صحيح”؟!
ليست القراءة وحدها من حاولت النبش؟
البيروسترويكا كانت إحدى أدوات الحفر الرئيسية؛ يتم كشف الغطاء عن التجربة الاشتراكية السوفييتية، عمرها الآن سبعون عاما وبضعة أشهر.
هو كشف سياسي ما تقوم به البيروسترويكا، لكن محاولتنا الجديدة في القراءة، تحاول الغوص على ضفاف ما يسمى المسكوت عنه؟
هل الماركسية لم تزل بخير، وصالحة لكل زمان ومكان كما الدعوات اللاهوتية؛ أو كما اللاشعور عند فرويد، حيث يغيب الواقع الفعلي، لجهة مكان وزمان ما افتراضيين.
/استرسل الشتاء على هدبه، يناجي تلابيب الخريف..كانت شبابيك صيدنايا تنأى بنفسها عن التلصص..
نضال أبو حسان أحد شباب اللجان الشعبية، يجلس في زاوية المهجع، يستمع لأم كلثوم (لسه فاكر)؛ كان متوفر في كل مهجع راديو صغير.
أبو حسان عاشق لأغاني أم كلثوم كل يوم الساعة السادسة والنصف؛ هناك محطة إذاعية تذيع أغانيها.
يأخذ “محرابه” خارج الجدار، يسافر بين طيات كتاب. وفي وقت آخر يمضي معنا بحلقة قراءة (الطوطم والتابو/ فرويد).
بهذه الفترة كنا مجموعة “سوريين” مع اللجان الشعبية الفلسطينية؛ لم نكن نقصد التسمية: فلسطينيين وسوريين. جرت العادة بين المعتقلين على صيغة المخاطبة تلك.
البعض من المعتقلين القدامى كان يرى الحياة مع شباب اللجان نوع من المغامرة؟
لديهم عادات سجنية تختلف عن المألوف السجني: تجري العادة معنا أن هناك ساعات للنوم، علينا احترامها بالقليل من الحركة من قبل “السهرانين”.
عند الشباب في المهجع السادس (اللجان)، قد يرغب (صلاح) المقيم زاوية المهجع القريبة من “المطبخ”، أن يصرخ على (ياسر)، وعازله بزاوية الباب: خيّا ياسر قَلينا بيض وما سألنا، يعني أقل شي طبق كامل، في وقت قد تكون الساعة الواحدة ليلاً. وهي خارج الوجبات المعتادة.
ثم يشاركهما موفق بالسيرة، وهو أصغرهم كان عمره عشرين عام يوم اعتقاله، الان صار اثنان وعشرين.
موفق على صغر سنه، لديه خفة دم وسرعة بديهة، وأحياناً “بيعجقها”: أحد المرات ، بعد أن استقروا جماعة البعث الديمقراطي في الألف يسار، جيراننا: عدد المهاجع التي يمكن التواصل معها مايقارب ثلاثة عشر مهجع- خطر على باله زيارة المهاجع:
يرتدي “شحاطة “، يدخل مثلا المهجع السابع ثم الذي يليه وهكذا حتى يصل المهجع الأول لدى البعث الديمقراطي. في كل مهجع يغّير “الشحاطة”. وتبدأ “الهمروجة”: كل يبحث عن “شحاطته” فلا يجدها. “فاتت الناس ببعضها : وين شحاطتي؟
استنفرت المهاجع، على بعضها، الكوريدور “يغلي ويفور”، لكنه يتبخر عن ضحكة جماعية: أكيد هاي حركات موفق!*
موفق لا خبر ولا علم؛ عاد للمهجع، غفى على عازله، ثم نام./
تم الاتفاق على إصدار مجلة، تحمل اسم رؤى، أن تكون ثقافية نظرية عامة مع جنوح نحو الأدب وتوابعه.
لم أحضر الاجتماع الذي تم فيه الاتفاق؛ حالة سلبية من الاعتزال والاكتفاء بالقراءة: ليلا بشكل فردي، نهاراً حلقات تواصلية مع من يرغب..يتخللها بعض الاستراحات من “هرج ومرج”..!
المجتمعون انتخبوا هيئة تحرير: عماد (أبو مشعل)، وائل، فادي، وفيق..هي تعكس وجهات النظر المختلفة بالجناح؟
دعنا نحدد هنا: اختلافات بالرؤى الفكرية وبداية تصدع الايديولوجيا.
صدر العدد الأول من رؤى، بغلاف للفنان حسن حسن، رسمه بقلم رصاص: نفق ليس له قرار؛ لطالما كان يحاكي الحالة الراهنة آنذاك، البريسترويكا وكيف تعرّي المخبوء والمستور..
كان العدد له طابع أدبي: خواطر من هنا وهناك، قصص قصيرة، شعر، مع افتتاحية لعماد.
المجلة نسخة واحدة، يمررها عماد على كل مهجع، مع الانتهاء منها يتم تداولها إلى المهجع الآخر، حتى تصل للجميع.
كان العدد الأول بمثابة تحفيز للكتابة، إنما بمواضيع مغايرة؟
تنطحتُ لكتابة مقال يتناول هذه التبدلات بآرائنا؛ كان ذلك تحريض من وفيق، فادي، محمود، مازن وعلي الجندي.
(علي سوف يساعدني في تبيضه؛ خطي سيء جداً)
العنوان: رماد في الأيديولوجيا. مع اقتباس لكارل ماركس: “على المرء أن يقتحم الظروف المتجمدة ليرقصَ لها لحنها الخاص..”
أخذته من كتاب الانسان الاشتراكي/ اسحق دويتشر.
حاول المقال الانطلاق من القول، إن الماركسية نظرية صالحة فقط لأن تكون معبرة عن الصراع الاجتماعي السياسي، بما درجت عليه التسمية (نظرية الصراع الطبقي)، بمعنى هي نظرية سياسية تحاكي تطور التاريخ من زاوية حركته الموضوعية، حيث طبقات تصعد وأخرى تهبط..
هذا يقود إلى انها تنزع نحو الشمولية عندما تخاطب الأدب والفلسفة وشتى فروع العلوم الانسانية.
بعد قراءة العدد، انتشرتْ حالة من الصخب والاستغراب، ثم “الشوشرة”: ما هذا التخريف!!
سيصدر العدد الثالث، مفعماً بالرد على هكذا تحريفات..أحدهم سيكتب: قد تجد شخصاً ما يعوم على سطح البحر، يتهيأ لك عن بعد أنه سباحٌ ماهرٌ، وأنت لا تدرك الحقيقة؟
هو يتخبط على السطح ولايعرف من السباحة سوى اسمها!!
إنما عماد ابو سعيد، قام بالرد بشكل مختلف عن البقية -هو من المتمسكين بالايديولوجيا- اخذت مقالته شكل الحوار الهادئ مع الاشارة ان هناك بعض “النكوص” نحو فكر آخر بعرف الماركسية هو فكر “ميتافيزيقي” يقترب من التفكير اللاعقلي.
-وكانت استراحة بعد هذا “الاستنفار”؛ تعاود الحياة صخبها اليومي-
يأتي العدد الرابع وفيه مشاركة لي -حملت مسحة انفعالية- كانت بعنوان: ماذا لو انكشف الغطاء؟
مع إقتباس أيضاً من كتاب حسين مروة -المفكر اللبناني- النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية.
: “سئلَ أحد الزهاد في مرحلة الإسلام المبكر، ماذا لو كُشفَ الغطاء؟ يرد: ما ازددتُ إلا يقيناً..”.
المقال ينحو نحو التذكير بالحالات السياسية التي تمردت على البطريركية السوفييتية وخاصة تجربتي هنغاريا المجر 56. تشيكوسلوفاكيا 68 (دوبتشيك). حيث تم قمع تلك الانتفاضتين بعنف من قبل الدبابة السوفييتية.
حاول المقال التنويه على أنه كان هناك صمتٌ، حتى من اليسار الجديد، عداك عن المدرسة التقليدية؟!
كان هناك بعض الخروج خاصة (الشيوعية الأوروبية). أيضاً الاممية الرابعة التروتسكية.
/علي التذكير هنا أن معظم من لديهم القدرة على الكتابة، كانت له مساهمته: علي الكردي، وائل، فادي، ياسر، عماد، مازن، عبد درويش، وفيق، منصور وآخرين..
إنما المفاجأة كانت قصيدة ملفتة لمحمد عيسى. ستظهر في ديوانه الأول (شيءٌ ما) بعد خروجه من السجن.
كذلك سيظهر اسامة آغي بقصصه القصيرة ذات النفحة الصحراوية الدافئة، بنكهة فراتية!
بعدها يصدر العدد السادس وكان الأخير؛ فرمان من مدير السجن بإنهاء هذه “الشطحات”. وإلا ..؟؟
كيف عرف؟
لربما هناك حالات فردية، متعددة الانتماء والاتجاه بين اللبناني والسوري والفلسطيني. قد انتبه البعض لتداول (رؤى) بيننا، فقام بتنبيه المساعد، لهذا “الخطر المحدق”.
ونحن بهذه المعمعة يأتي خبر محزن جدا: وفاة سناء الكردي أخت علي والمعتقلة السابقة؟
يخرج علي الى الزيارة، كان ينتظر قدوم أمه وأخته سناء؛ رفيقة عمره، من خلاله ارتبطت بالتنظيم (رابطة العمل الشيوعي). اعتقلت قرابة عامين 78-80. أصغر منه ببضع سنوات.
تأتي أمه وحيدةً، تغص بدمعها، تغرغر الكلام:
كيفكَ يَمه..وينها سناء، علي يسأل؟
سناء ماتتْ يَمه..
كيييييييف؟!
رجعتْ من شغلها، تطعم ابنها، بدأتْ تصرخْ يَمه يَمه..راسي..وجع مو طبيعي. اركضتْ ..مالحقتها يَمه..اسمعتْ شهقتها الأخيرة، وقعت على الارض..ماتتْ..جلطة دماغية مفاجئة.**
انا كنت أعرفها قليلاً. عمًّ الحزن بكامل الجناح (الالف يمين).
قررنا ان نعمل لها عزاء يليق بها:
تجري العادة عند شباب المخيم الفلسطيني، وأيضا عند بعض السوريين، أن يتم تقديم غذاء، بالتزامن مع تقديم العزاء.
عبر طول الجناح الموازي لعشرة المهاجع، تم ترتيب “طاولة السفرة”، عبارة عن أكياس نايلون بيضاء (أكياس الخبز).
وضعتْ عليها صحون الغذاء؛ ما أتى بالزيارة وماهو متوفر في المهاجع.
يجلس علي في أول “السفرة” ونحن أصدقاؤه بجانبه..
علي حاول أن يتماسكْ، إنما صوته يرتجف..تراه هنا وهناك بيننا وبين أهله وطفلي سناء الصغيرين -لديها طفلان-؛ ستقوم الجدة أم علي بتربيتهما والاعتناء بهما.
انتهى العزاء وعاد كل الى مهجعه يناجي طيراً، همسً من جناحيه: وعامٌ يمضي وعبثاً..يا امرأةً كوني بيرقِ هذا الجنح..!
-من عادات السجن العامة: ينسى الجمع هموم الآخر، وينحصر الحزن والحداد بين جدران نومه وعازله لصاحبه..-
لم تكن دقائق من صمتٍ، حينما قررنا -نحن مقيمين المهجع السادس سوريين وفلسطينيين وعددنا ستة عشر- أن تكون سهرتنا لهذا المساء، “سهرة عرمرمية فيها كاسٌ وطاسٌ”، بعد إغلاق الباب؛ تغلق أبواب المهاجع السابعة مساء.
كان بحوزتنا بضعة “عرق”؟
هنا تطورت حالتنا مع التخمير: استطاع أصحاب “الخبرة والتقطير” أن يصنعوا “كلكلة ” لتقطير العرق***
أخرج علي ما بحوزتنا من العرق، ما يقارب أربع لترات كاملة. وضعها في منتصف المهجع، تحلقنا حولها كرقصة من نار ، إنما لا نستطيع إشعال الحطب: هاتِ يا خمار واسقنيها، يردد ياسر..يأتيه الصدى من وفيق: “آه على سكرةٍ في المهجع..” من خمرة علي لا من خمرة “النواس”!
نضع الاكل على طول المهجع؛ كانت بالنهار أكثر من زيارة؛ تنوع بالأطعمة والفواكه والخضار.
فرشناها جميعها على الممر الداخلي للمهجع. مع “حليب السباع”، وكل أمامه كأسه، تمتلئ البياض. الغائب الوحيد هو الثلج.
بضعة دقائق تمرُ، تختلج الكؤوس مع “الغناء”:
(علي): على طريق بغداد ياعيني..لزرعلك خوخة. علمني شرب الكأس، ساوا لي دوخة..طير يا حمام وروح..وسلم عالغالي..
(ياسر): يا طير يا طاير على طراف الدني.. لو فيك تحكي للحبايب شو بني..
نحن الجوقة، نحتسي الصدى ونغني: على صوت “صارخ كما البرية الثكلى”، يخرج من بين “الشبابيك” الحزينة، يرفرف عند السجان، مساعد الانضباط”؟
يباغتنا ومعه عشرة من “صحبه” يفتح الباب “بحميمية” لدرجة كادت أن تغتصبه لهذا المسكين، الباب!!
نقف على أهبة الاستعداد، وبكامل “قوانا العقلية”؛ طارت السكرة يا صاحبي.. أكلنا هوا..يهسهس بتلك الكلمات،ابراهيم..
المساعد لايعرف ماذا يتصرف؟
هو الوكيل عن الاصلي المساعد نزيه.
أمام كل واحد يقف، يقترب من فمه، تكاد تشعر كأنه يريد التقبيل “لاسمح الله”.
يحدد الأمر: (أنت طلاع، أنت خليك بالمهجع) ، هو قرر أن يأخذ الى المنفردات، النصف: ثمانية بقينا وثمانية الى الطابق الثالث تحت الأرض، حيث الزنازين تختلي بنفسها، يراودها عن نفسها بعض “الزبائن” بين الفترة والأخرى.
الكل حلاقة على الصفر “قرعان صرنا مثل اليقطين، أو الجلنط بلهجات أخرى”.
مع إغلاق الباب..أما هؤلاء من نزل الى العالم السفلي: “فلقة دولابية ثلاث مرات، مع كل وجبة أكل”!!
-عندما عادوا إلينا نسينا أن نسألهم: هل الفلقة قبل الأكل أم بعده-
“ويأتيكَ بالأخبار من لم تزودِ”
أتوا بهم “زرافات ووحدانا” ..هم في جناحنا الألف يمين، من اعتقالات حملة 87 الشهيرة التي اوشكت على الحزب إلا فيما ندر.
وضعوهم في ستة مهاجع، كانوا في ثياب رثة الملامح؛ ألقوهم في الفروع فترة الأشهر السابقة، نحن الآن بين شباط وآذار 88.
هناك كانوا في الفروع موزعين بين المهاجع، لا زيارات ولا من يحزنون.
اكثريتهم تتمنى “الصعود إلى أعلى حيث، الرفاق”؟
لديهم “وشوشات” قبل الاعتقال و”دردشات” الفروع عندما كانوا هناك:
مجموعة الستة عشر وزادوا قليلاً، هم تخلوا كلياً عن الحزب والسياسة وتعبوا ويريدون الخروج مهما كانت الشروط!!
بهذه “البوابة الخلفية” ردوا علينا السلام، ممن بادر من الجناح وذهب لمهاجعهم.
بعد فترة وجيزة تنفرج بعض الأسارير هنا وهناك. نتعرف على مالك، اسامة، يحيى، غسان، عدنان. نضال الذي سيرافقنا في حلقات القراءة. خاصة تلك التي كانت في المهجع السادس (اللجان).
بعض الحالات سوف تعيش بنفس المهاجع؛ هم على قرابة ما أو صداقة مع أحد من جناحنا.
محمد ابراهيم في المهجع السادس (اللجان) وعلى مسافة خطوات، ينضم إلينا في القراءة.
في مهجعنا سيأتي بدر زكريا، كاسر صالح، وأكرم القصير..
(بدر) سيعيد ترتيب حياتنا في الجناح، بطريقة مغايرة للمألوف؛ سيعمل جاهداً على النشاط المسرحي، حيث عشقه وولعه.
ستكون هناك مسرحية اللجنة؟
سوف يأخذنا إليها الجزء القادم..
…………………………………………….