في الآونة الأخيرة، أصدر المكتب الإعلامي لحركة “حماس” وثيقة خاصة بعنوان “هذه روايتنا: لماذا طوفان الأقصى”. وفي هذه الوثيقة، تشرح الحركة بالتفصيل دوافعها وأهدافها من العملية.
ومن غير المرجح أن تحظى هذه الوثيقة باهتمام وسائل الإعلام والحكومات الغربية، لأن رواية “حماس” لأحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) تتعارض مع الدعاية التي تنشرها إسرائيل وتشارك في نشرها الحكومات ووسائل الإعلام الغربية. ومع ذلك، هناك ما يكفي في الوثيقة للإعلان عن ولادة “حماس” جديدة، والتي تفصم العرى مع سنوات تأسيسها الأولى.
في تاريخ النضال الفلسطيني، يخفت بريق المنظمات السياسية وتتلاشى في حين تظهر دائمًا منظمات جديدة لتحل محل القديمة. وعادة ما يفقد القادة مصداقيتهم بعد الأحداث التاريخية الكبرى، ويظهر قادة جدد يستحوذون على خيال جيل فلسطيني جديد.
هناك بعض التنظيمات السياسية (جماعات المقاومة) التي تنجو وتبقى، لكنها تمرُّ بتحولات سياسية كبرى. وكانت حركة “فتح”، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، هي العمود الفقري للنضال العسكري والسياسي الفلسطيني.
وفي حين أنها لم تحقق نجاحا عسكريا يعتد به، وفشلت معظم عملياتها ضد إسرائيل، فقد احتشد الشعب الفلسطيني خلف “فتح” لأنه كان يُنظر إلى ياسر عرفات على أنه الزعيم الجديد (والوحيد لاحقًا بلا منازع) للثورة الفلسطينية.
واليوم، ينظر معظم الفلسطينيين إلى حركة “فتح”، عن حق، على أنها الجيش البديل للاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة. وتصر إدارة بايدن على أن “فتح” (بعد بعض “التجديد” وإعادة تلميع العلامة التجارية) ستكون هي الطرف الوحيد المقبول (لدى الولايات المتحدة والبعض في إسرائيل) لإدارة الأمن والحكومة في غزة بعد الحرب.
لكن الشعب الفلسطيني يعتقد بخلاف ذلك ويعتبر جيش السلطة الفلسطينية ذراع القمع نيابة عن إسرائيل والولايات المتحدة. ولطالما كانت الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة وإسرائيل يمكنهما اختيار القادة الفلسطينيين قديمة قدم الاحتلال والاستعمار نفسيهما.
كما أن “حماس” تغيرت أيضًا على مر السنين. عندما تأسست في العام 1987، كانت منظمة مسلحة تركز بشكل كبير على الخطاب الديني، ولم تعتمد على العمليات العسكرية الناجحة كمصدر للشرعية والمصداقية. وقد ارتبط ذلك الموقف ارتباطًا وثيقًا بالتفجيرات العشوائية خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عندما كان عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية يدفعان باتجاه تسوية سلمية مع إسرائيل.
ولكن، ما الذي يفسر التغيير الذي يطرأ على بنية ودَور وسياسات حركة أو جماعات مقاوِمة في الشرق العربي؟ عند دراسة التغييرات في “حماس”، من المفيد أن ننظر في تاريخ “حزب الله”، جماعة المقاومة الشيعية لإسرائيل في لبنان.
عوامل التغيير
في حالة “حزب الله” اللبناني، يمكن للمرء أن يميز مجموعة من العوامل التي تلعب دورًا في تشكيل وتحويل تركيز الحركات وخطابها.
أولاً، يمكن أن يؤدي تغيير في القيادة إلى تغيير كبير في سياسات وممارسات المنظمة.
كانت حركة “فتح”، قبل فرض قيادة عرفات الأوتوقراطية بعد العام 1970، مختلفة تمامًا عما أصبحت عليه لاحقًا، أيضًا في عهد عرفات، ولكن أكثر بكثير في عهد محمود عباس.
كان ثمة شكل أقرب إلى القيادة الجماعية في البداية. وبالمثل، ورث حسن نصر الله في “حزب الله” حزبًا لم يكن يتمتع بشعبية ولم يكُن يُفهم خارج لبنان (وحتى داخل لبنان).
اعتقدت إسرائيل أنها بقتلها عباس الموسوي (بالإضافة إلى زوجته وطفله) في العام 1992، ستقضي على ظاهرة “حزب الله” إلى الأبد. ولكن، أصبح حسن نصر الله بدلًا من ذلك مسؤولًا إلى حد كبير عن تحويل الحركة إلى أكبر حزب سياسي عربي -ربما الأكبر على الإطلاق، حتى لو أخذنا في الاعتبار “الحزب الشيوعي السوداني” في أوج نشاطه في ستينيات القرن العشرين.
كما قام نصر الله بـ”لبننة” الحزب وربطه بالمشهد السياسي اللبناني الداخلي بعد أن كان قبل ذلك غريبًا بطريقة ما. وكان وراء التخلي عن هدف إقامة جمهورية إسلامية في لبنان، الذي كان محور تركيز “حزب الله” عندما تأسس أول الأمر.
ولم ينه نصر الله القيادة الجماعية التي ميزت “حزب الله” منذ تأسيسه، لكن الكاريزما التي يتمتع بها دفعته إلى القيادة الإقليمية، وذهبت به أبعد كثيرًا من الحدود الضيقة للسياسة اللبنانية. ويتشاور نصر الله مع إيران وآخرين داخل حزبه، لكن ثمة أسبابًا لتوقع أنه هو الذي يتخذ القرارات الاستراتيجية النهائية للحزب، خاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين ولبنان.
كان الكثيرون يخشون “حزب الله” قبل نصر الله، ولم يكن الحزب مفهومًا أو محبوبًا في أغلب الأحيان. وفي عهد نصر الله، أصبح الحزب محبوبًا لدى البعض (بشكل خاص قبل الحرب السورية في العام 2011)، ومكروها لدى آخرين، ومُساء الفهم لدى الكثيرين. (بطبيعة الحال، تخصصت وسائل إعلام عربية في تشويه معنى كلمات نصر الله كجزء من حملتها الدعائية الإقليمية لشيطنة أعداء إسرائيل).
يقوم الزعيم الجديد لـ”حماس”، يحيى السنوار، أيضًا بإحداث تغيير جذري في دور “حماس” وممارستها وفعاليتها. وتمامًا مثل نصر الله، بدأ السنوار في ترك بصمته على الحركة بعد فترة وجيزة من توليه القيادة في العام 2017.
ومثل نصر الله (الذي خدم في دور أمني مع “حزب الله” قبل سنوات من توليه القيادة)، كان للسنوار دور أمني مع “حماس”. ويُزعم أنه كان يطارد المتعاونين مع إسرائيل داخل “حماس” وفي غزة. وكان فشل إسرائيل في الوصول إلى قيادة “حماس” وهيكل قيادتها ناجمًا عن النظام الأمني الذي أقامه السنوار في القطاع.
ليس السنوار من النوع الذي يدير الأعمال ويبرم الصفقات بمكر وحذق مثل خالد مشعل، الزعيم السابق لحركة “حماس”، وهو يتجنب الانخراط في السياسات والصراعات البينية بين الدول العربية. كما أنه يؤمن إيمانًا راسخًا بفعالية محور المقاومة الإقليمي، ويستثمر ذلك بفعالية كبيرة في توظيفه للموارد العسكرية للحركة.
انفصلت “حماس” عن حقبتها السابقة عندما حول مشعل الحركة إلى ذراع للسياسة الخارجية القطرية. وكان مشعل أقرب إلى قطر وتركيا في حين أن السنوار أقرب إلى إيران، التي تزود الحركة بالمساعدات العسكرية الحاسمة (تزود قطر “حماس” بالمساعدات المالية، ولكن بتنسيق وثيق مع إسرائيل، بحسب تقارير).
ربما يتغير حزب أو حركة أيضًا من خلال التعلم من الأخطاء السابقة. وعندما ظهرت “حماس”، لم تكن لديها أي مخاوف أو موانع من التعبير عن مشاعر معادية لليهود، حتى أنها استشهدت بـ”بروتوكولات حكماء صهيون” سيئة السمعة. ولم تكن “حماس” تهتم حتى بالحساسيات المسيحية في البداية. لكن هذا كله تغير بمرور الوقت.
في هذه الوثيقة الجديدة المذكورة أعلاه (وكذلك في وثيقة سياسية صدرت في العام 2018) أوضحت الحركة أنها لا تعتنق أي أيديولوجية تضمر عداء لليهود كيهود. وهذا تحول كبير، عبر عنه “حزب الله” أيضًا في وثيقته السياسية للعام 2009.
من المؤكد أن إسرائيل والصهاينة الغربيين لا يريدون الاعتراف بأن الحركات تتغير. وهم يريدون تصنيف جميع جماعات المقاومة الفلسطينية والعربية على أنها شبيهة بالنازية، بغض النظر عما تفعله هذه الجماعات أو تقوله. وحتى يومنا هذا، ما تزال وسائل الإعلام الغربية تشير إلى الخطاب السياسي الذي تبنته حركة “حماس” في عامها الأول ويتجنب الإشارة إلى خطابها في سنواتها الأخيرة الأقرب زمانياً.
وهي تفعل الشيء نفسه مع “حزب الله”، بل وتستمتع حتى وسائل إعلام عربية بالعثور على خطابات قديمة جدا لنصر الله يشير فيها إلى مسألة الدولة الإسلامية لتنفير المؤيدين غير الشيعة في لبنان والعالم العربي.
من ناحية أخرى، نأت “حماس” بنفسها أيضًا عن تاريخها المتمثل في عدم محاولة التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية الإسرائيلية (على الرغم من أن تصريحاتها المبكرة جدا أشارت إلى أنها تفعل). وليس من السهل على جماعات المقاومة العربية أن تتعامل مع هذا التمييز، (أ): لأن إسرائيل والحركة الصهيونية لم تتكلفا مطلقًا عناء التمييز بين العرب المقاتلين والعرب المدنيين؛ و(ب): لأن العديد من الإسرائيليين (من الذكور والإناث على حد سواء) مسلحون ويخدمون كاحتياط في الجيش والأجهزة الأمنية.
في فترات سابقة، كانت موجة الهجمات الانتحارية التي نفذتها “حماس” خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية قد أدت إلى تنفير بعض المؤيدين للفلسطينيين، من العرب وغير العرب. وفي الوثيقة الجديدة تعلن “حماس” عن سياسة معلنة تتوخى تجنب استهداف المدنيين كجزء من عقيدتها الدينية والأخلاقية. (سأتعمق في هذا السؤال في الجزء الثاني الذي يُنشر قريبًا من هذا المقال).
وكان هناك مسار مماثل في تاريخ “حزب الله” اللبناني أيضًا. لكن الحزب أصبح الآن بالغ الحرص على تجنب استهداف المدنيين. وحتى في الأشهر الأخيرة من الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل، استهدف الحزب بدقة المواقع العسكرية في إسرائيل عندما كان من الأسهل عليه بكثير أن يطلق نيرانه بطريقة عشوائية وبلا تمييز.
في المقابل، وعلى النقيض من ذلك كله، تعمل إسرائيل في جميع حروبها على قتل العديد من المدنيين (أو على أن يكون معظم الضحايا من المدنيين). وفي واقع الأمر، لا تنكر إسرائيل -في حرب الإبادة الجماعية الأخيرة التي تشنها على غزة- أن معظم ضحاياها هم من المدنيين، ولكنها تؤكد أن العديد من الذين قُتلوا كانوا من مقاتلي “حماس”.
(تقدر المخابرات الأميركية أن إسرائيل بالغت في النسبة المئوية التي تعلنها للمقاتلين الذين قتلوا). وفي حرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان، كانت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين الذين قتلهم “حزب الله” من الجنود والضباط، في حين أن معظم الذين قتلتهم إسرائيل على الجانب اللبناني كانوا من المدنيين.
*أسعد أبو خليل As’ad AbuKhalil: أستاذ لبناني أميركي للعلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، ستانيسلاوس. وهو مؤلف كتابي “المعجم التاريخي للبنان” Historical Dictionary of Lebanon (1998)؛ و”بن لادن، الإسلام وحرب أميركا الجديدة على الإرهاب” Bin Laden, Islam and America’s New War on Terrorism؛ (2002). أدار مدونة ”العربي الغاضب” The Angry Arab الشهيرة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Hamas’ Official Account