فجأة تصبح اللغة، كل لغة، محدودة وفقيرة حين يحاول المرء العثور على مصطلحات تصف مشاعره وهو يشاهد مجزرة غزّة أو يفكر فيها وبضحاياها وبغياب آفاق انتهاء المحرقة، وأن الحاصل هناك ليس أقلّ من نهاية كل شيء. كلما شاهدت فيديوهات أكثر وقرأت قصصاً أكثر عن الضحايا، تيقنتَ، من دون مبالغة لغوية وعاطفية، أن من قُتل هو الناجي ومن لا يزالون على قيد الحياة هم قليلو الحظ لا العكس. وإن وجب اختيار عنوان لآلاف البشاعات المرتكبة، ربما جاز القول إنه الوقاحة. والعنصرية قد تكون أعلى مراحل الوقاحة. الوقاحة ــ العنصرية الإسرائيلية لا يضاهيها بشاعة إلا شعور الطرف الآخر بالعجز. العجز عن قلب الطاولة أمام هذا التساهل العالمي مع الوقِح، وتدليله ودعمه فتشجيعه على ارتكاب “وقحنة” أكثر. الحرب الإسرائيلية على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) حالة دراسة لتلك الوقاحة ــ العنصرية. الحرب عمرها من عمر تأسيس الوكالة (1949)، لم تتوقّف يوماً، لكنها عرفت قفزات معظمها في حكومات بنيامين نتنياهو الست. اليوم، الحرب على الوكالة بلغت ذروتها والأخطر أن 15 دولة كبرى حتى الآن تشارك فيها وهي من كبار ممولي الوكالة (يغطون في العادة نصف موازنتها، ما يناهز نصف مليار دولار) كأميركا والسويد وألمانيا واليابان وبريطانيا وغيرها. في المقابل، الأمل بمسؤولين غربيين نزيهين موجود في زعماء النرويج وإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا ونيوزيلاندا ممن جاهروا برفض وقف تمويل “أونروا” لا بل ربما زيادة حصتهم من موازنتها تعويضاً عن المنسحبين. الوقاحة ــ العنصرية الإسرائيلية المدعومة من البلدان الـ15 لا تحتاج شرحاً كثيراً: المنطق بسيط ككل فكرة عنصرية ووقحة: تتهم الاستخبارات الإسرائيلية 12 موظفاً من أونروا في غزّة بالمشاركة في عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول في اليوم نفسه لصدور قرار محكمة العدل الدولية (26 يناير/ كانون الثاني الماضي) بوجود احتمال حصول إبادة جماعية في غزة، وهو قرار بُني بشكل رئيسي على أرقام أونروا وإحصاءاتها ومعطياتها عن حجم المجزرة، فتفتتح أميركا مسلسل قطع التمويل عن الوكالة وتلحق بها 14 دولة من دون انتظار تحقيق. حتى ولو كان الاتهام صحيحاً (وهذا ما ليست الاستخبارات الإسرائيلية مؤهلة لتحسمه طبعاً)، فالحديث يدور عن 12 فرداً من أصل 13 ألف موظف ومليوني مستفيد من خدماتها في القطاع. إدارة “أونروا” تجاوزت كل الأصول القانونية “من أجل حماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدة الإنسانية” (لستة ملايين لاجئ فلسطيني في الضفة والقطاع والأردن ولبنان وسورية) على حد تعبير مفوضها العام فيليب لازاريني، فطردت المتهمين الـ12 فوراً من دون تحقيق معهم، وبعد طردهم بدأت التحقيق. محاولة اتّقاء الشر والانحناء أمام العاصفة لم تجدِ نفعاً، فإما أن الخطّة مقررة سلفاً، أو أن مسؤولي الدول الـ15 أغبياء فعلاً إلى هذه الدرجة لكي يصدقوا تقريراً استخباراتياً سرياً لأحد طرفي الحرب، فيكون بهذه الحالة فيه الخصام وفيه الخصم والحكم. يسترسل التقرير الاستخباري الإسرائيلي فيقرر أن 10 في المائة من الموظفين الـ13 ألفاً في أونروا ــ غزة أعضاء في حركة حماس. قد يكون الرّقم صحيحاً أو غير صحيح، ليس هذا الموضوع، بل المسألة في إرساء قاعدة تصديق تقرير استخباري لطرف هو المعني الأول بالحرب، عن أهم وكالة تابعة للأمم المتحدة، من دون تحقيق محايد. وقاحة لا تُطاق إلى درجة أن شبكة “سكاي نيوز” التلفزيونية البريطانية، غير المعروف عنها تعاطفها بشكل خاص مع الفلسطينيين، وصفت أجزاء من التقرير الاستخباري الإسرائيلي الذي يتهم أونروا بأعظم المعاصي، بأنها “غير مدعومة بأي دليل”.

الشعور بالعجز أمام هذه الوقاحة ــ العنصرية مفتاح لأبواب توصل إلى أكثر الخيارات عدمية. يصعب تصديق ألا يكون هناك في العواصم الكبرى للبلدان التي تدفع الفلسطينيين إلى مثل هذه العدمية، من ينبّه ويحذّر صناع القرار بأن الوقاحة مثل العنصرية، تقتل صاحبها وضحيتها.