هل المطلوب إيرانياً أن تنزلق الولايات المتحدة إلى مستنقع حرب عبثية مع ميليشيات، تحضر وتغيب بحسب الحاجة إليها والتهديدات المحيطة بها، مستفيدة من تجربة تنظيم “داعش” الذي تورط في إعلان دولته المزعومة؟ في كل مرة تتصاعد فيها المواجهة بين القوات الأميركية والميليشيات التي تأتمر بأوامر إيرانية، تقدم الإدارة الأميركية ما يشبه الضمانات إلى إيران بأنها لن تتعرض لخطر الدخول في حرب مباشرة من شأنها أن توسع دائرة الصراع في منطقة ملتهبة.
قد لا تشكل تلك الضمانات عامل اطمئنان يشجع الإيرانيين على الاستمرار بابتزاز الجانب الأميركي، الذي يبدو كما لو أنه فقد الأمل في إمكان الخروج بنتائج إيجابية من الحوار مع الجانب الإيراني أو هكذا يتظاهر على الأقل. فالإيرانيون بعدما تعرضوا لضربات إسرائيلية دقيقة شلت موقتاً جزءاً من برنامجهم النووي، صاروا على بينة من أن الرد الأميركي لن يجيء مباشراً، غير أنهم وقد وجدوا الظروف مناسبة للتوسع في إنشاء ميليشيات هي بمثابة حارس رخيص التكلفة لمواقع نفوذهم، وصاروا أكثر رغبة في أن تنتقل هيمنتهم من الأرض إلى المساهمة في صنع القرار الذي يتعلق بمصير المنطقة. وهو ما لن يتمكنوا من فرضه إلا عن طريق الكشف عن قدرتهم على إرباك الوجود العسكري الأميركي، بحيث تشعر الولايات المتحدة بالحاجة إلى استرضائهم منعاً لوقوع خسائر بشرية بين صفوف قواتها. ولكن هل يغير ما حدث في البرج 22 الذي يقع شمال شرقي الأردن من قواعد الاشتباك؟
تمارين خصمين تحت الطاولة
حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية قد يظل طرفا الصراع يلعبان في ملعب مكشوف وبأدوات سبق تجريبها. ففي كل مرة تتعرض فيها مواقع أميركية للقصف، يأتي التأكيد أن فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني هو الجهة التي تصدر الأوامر وتزود الميليشيات بالأسلحة والخرائط والإحداثيات. أما الطرف الإيراني الذي غالباً ما يسارع إلى إعلان براءته من عمليات القصف، فإنه يدرك أن رسائله تصل في مواعيدها، وأن الوقت يمر لمصلحته ما دام الديموقراطيون في البيت الأبيض.
تفاهمات تحت الطاولة يجري تمريرها على حساب الأمن في بلدين غير مستقرين وفاقدي السيادة على أراضيهما هما سوريا والعراق. وليس خافياً على أحد أن الطرفين لم يسعيا عبر مراحل صراعهما التي تتوزع بين التصعيد والتهدئة إلى التخفيف من الفوضى التي وجدا فيها مناسبة لتمرير الوقت في ظل استمرار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي سياق ذلك النزاع جاءت حرب غزة لتكون بمثابة وعاء جديد لاستيعاب ما يفيض من عناصر الشد بين الطرفين. فإذا كانت الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان قد أظهرت حماسة للوقوف مع حركة “حماس” لإضفاء مزيد من الشعبية على النفوذ الإيراني، ومن ثم وضع حد للمطالبة الشعبية بنزع سلاح الميليشيات غير القانوني، فإن الولايات المتحدة لا ترى ضرراً في ما تتعرض له قواعدها من قصف يومي إذا التزمت الميليشيات بقواعد اشتباك، تفرض عليها نوعاً صورياً من الممارسة القتالية. وهذا الموقف الأميركي إنما يهدف إلى تشتيت الأنظار عما يجري في غزة.
إما المغادرة أو التسليم بالهينمة الإيرانية
أربكت الضربة التي أدت إلى مقتل ثلاثة وإصابة أكثر من أربعين جندياً في القاعدة الأميركية الحسابات الأميركية التي تنطلق من الحرص على عدم توسيع الصراع والتورط في حرب، لن تكون علاجاً نهائياً. وهو ما تعلموه من درس العراق. ولكن القراءة الإيرانية قد تكون مختلفة. فالإيرانيون ليست لديهم بضاعة قابلة للتداول على المستوى العقائدي سوى الحرب. فـ”تصدير الثورة”، وهو أحد من أهم المبادئ التي رسخها الخميني في عقول أتباعه، قائم على فكرة الحرب الدائمة. ولا تقتصر تلك الحرب على الدول التي يسّرت الظروف التاريخية لإيران الهيمنة عليها بل تتجاوزها إلى دول أخرى، شديدة الارتباط بالمصالح الأميركية. لذلك لا يكتفي الإيرانيون بزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بل يسعون إلى دفع الأميركيين إلى مغادرتها أو التسليم بهيمنتهم على كل حيثيات القرار السياسي ومدخلاته في المنطقة، بحيث تكون إيران هي القوة التي يتم التفاوض معها في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المنطقة. لذلك فإن فكرة أن ما حدث من تحول في سلوك الميليشيات وأدى إلى إلحاق أضرار بشرية بين صفوف القوات الأميركية لم يكن خطأً، قد تكون هي الفكرة الأكثر قرباً من العقل السياسي الإيراني وهو يتعامل مع المتغيرات في المنطقة برؤية متشددة. القراءة الإيرانية تستند أصلاً إلى نوع من المعرفة الناقصة بالموقف الأميركي من المنطقة، رغم أن جو بايدن لم يضع مسافة كبيرة بينه وبين باراك أوباما الذي أزال الكثير من القيود التي كانت تعيق إيران في طريق تحقيق أهدافها في التوسع.
هي حرب على الأشباح بالتأكيد
بعد الضربة التي وجهتها إلى أهداف في شرق سوريا وغرب العراق، هل ستعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل؟ سؤال هو أشبه بالمزحة الثقيلة التي لا يتحملها الرأي العام الأميركي الذي حمّل بايدن مسؤولية ما جرى. وفي سياق تلك المعادلة يمكن القول إن الديموقراطيين سيخسرون السباق في اتجاه البيت الأبيض إذا ما علقت القوات الأميركية عملياتها ضد الميليشيات ولم تتمكن من اصطياد رؤوسها الكبيرة. في المقابل، فإن حرباً تخوضها الولايات المتحدة على الأشباح ستُظهرها في صورة رثة، تكون إيران أكثر المستفيدين منها. وما من معطى على الأرض يشير إلى أن الولايات المتحدة ستغادر تلك الصورة التي وجدت فيها إيران عنصر تشجيع لأتباعها من أجل تطوير مغامراتهم وتوسيعها في قصف القواعد الأميركية، دفعاً للولايات المتحدة للبحث عن مخرج من مأزقها في اتجاه الاعتراف الرسمي بسيادة إيران على المنطقة. وهو ما سيشكل هزيمة أميركية ستكون شديدة الوقع على إسرائيل التي ترغب إيران في تحييدها تمهيداً لعلاقة جوار محتملة.