عندما نجح الإطار التنسيقي، الكتلة البرلمانية الشيعية الحاكمة، في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 في تشكيل وإمرار حكومة محمد شياع السوداني، بسهولة نسبية، بعد صراع طويل وصعب مع التيار الصدري الفائز في انتخابات 2021 البرلمانية، كان ثمة توقع ساهم “الإطار” في ترسيخه أن البلد ذاهب أخيراً نحو الاستقرار والوحدة في اتخاذ القرار بعد سنوات طويلة من الصراع والتفكك في كيفية إدارة الدولة. على مدى عام كامل تقريباً، اجتهد الإطار التنسيقي في إظهار نفسه موحداً يعمل على أساس برنامج سياسي متفق عليه وتنفذه الحكومة. كان الانطباع الذي حاول “الإطار” بثه هو وجود وحدة قرار أخيراً في البلد. في خلال هذا العام، تراجعت فعلاً الصراعات السياسية الشديدة والخلافات العلنية الكبرى التي طبعت السنوات السابقة على نحو جعل هذا العام يبدو كأنه مختلفٌ لجهة الاستقرار. في هذه الأثناء كان ثمة من يحاجج بأن هذا الهدوء السياسي غير المسبوق ليس علامة استقرار حقيقي ورؤية موحدة، وإنما هو دليل على هيمنة الإطار التنسيقي على كل أدوات الدولة تقريباً وقدرته على إخفاء خلافاته وتنافس أطرافه المختلفة على الموارد والمناصب والنفوذ ومنعها من البروز على السطح.
انتهت هذه الوحدة الظاهرية لـ”الإطار” بسرعة بعد اندلاع حرب غزة على إثر انهيار بعض أهم التفاهمات التي ساعدت “الإطار” على إبراز نفسه أمام الجمهور والخصوم موحداً في القرارات والمواقف، والحكومة على التشكل والحصول على القبول الغربي بها. كان التفاهم الأهم المُنهار بهذا الصدد هو المتعلق بتجنب الفصائل المسلحة، التي تعتبر جزءاً مباشراً أو غير مباشر من الإطار، استهداف القوات الأميركية بالقصف، مقابل ترك ملف وجود هذه القوات بيد الحكومة التي كان عليها، بموجب التفاهم مع الفصائل، أن تنتج جدولاً زمنياً لانسحاب القوات الأميركية على أساس مفاوضات عراقية – أميركية.
خرقت الفصائل المسلحة هذا التفاهم، على الأكثر بدعم إيراني أوليّ، كي تساهم في “المعارك الطرفية” في العراق وسوريا واليمن ولبنان، بديلاً عن الدخول المباشر للجمهورية الإسلامية في “معركة المركز” في غزة بعدما قرر الولي الفقيه، السيد علي خامنئي، على نحو مبكر ومعقول أن إيران لن تحارب في غزة دفاعاً عن “حماس”، بعد شن اسرائيل هجوماً واسعاً في قطاع غزة لتفكيك الحركة وإنهاء حكمها هناك. فاجأت عملية “حماس” في السابع من أكتوبر في غلاف غزة إيران وكامل محور المقاومة. بعد الرد العسكري الإسرائيلي على العملية والدعم الأميركي القوي لهذا الرد، وجد محور المقاومة، بقيادته الإيرانية، نفسه في وضع محرج جداً، إذ قام هو كمحور، على الأقل في خطابه العلني، حول الدفاع عن فلسطين وتحريرها عبر مواجهة إسرائيل. بنى المحور الكثير من شرعيته الشعبية والسياسية على خوض المعركة المرتقبة لإنجاز هذا التحرير وهزيمة الاحتلال. المضي في هذا الدرب يعني وضع إيران ومحور المقاومة في مواجهة عسكرية كاملة ومباشرة ضد إسرائيل وأميركا. تدرك ايران جيداً أن خوض مثل هذه المواجهة يعني انتحاراً عسكرياً وسياسياً، ولذلك عمدت الى خوض المواجهة الأخف عسكرياً وغير المباشرة، بطابعها غير المصيري، في “الأطراف” حيث اكتفت بالتصعيد المسلح على ما هو معتاد في السابق من كر وفر مسيطر عليهما، وترك “المركز” في غزة يواجه مصيره. ولذلك كان القرار بزيادة المواجهات كماً ونوعاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتولاها الأذرع المختلفة للمحور لكن من دون الانزلاق إلى حرب شاملة تتورط فيها قاعدة المحور وقيادته: الجمهورية الإسلامية.
كان أحد أثمان هذا القرار هو “التضحية” بالوحدة الظاهرية للإطار التنسيقي والاستقرار السلبي الذي حققه على مدى عام. ساهم الإصرار الأميركي على الرد العسكري المباشر على هجمات الفصائل من دون التشاور مع الحكومة العراقية أو أخذ موافقتها، في إظهار عجز الأخيرة عن فرض إرادتها على الفصائل باحترام التعهد الحكومي العراقي بحماية هذه القوات من الهجمات المسلحة. في آخر المطاف، اضطرت الحكومة العراقية للاستعانة بإيران وأطراف إطارية أخرى لممارسة الضغوط على الفصائل لوقف هجماتها ضد القوات الأميركية، عندما أصبحت هذه الهجمات تهدد “الإطار” بالتفكك، بينها تهديد رئيس الوزراء بالاستقالة بحسب مصادر، أو باندلاع صراع مفتوح بين الحكومة والفصائل، وخصوصاً أن الحكومة تعرف جيداً الثمن السياسي والاقتصادي الباهظ الذي سيدفعه العراق إذا أجبرت القوات الأميركية على الانسحاب من البلد تحت الضغط المسلح للفصائل ومنح إيران انتصاراً جاهزاً على أميركا.