في تاريخ المقاومة المسلحة للدول التي رزحت تحت الاحتلال، ما يستدعي الفخر والشرف والنياشين للرجال والأوطان. لكن في النزاعات المسلحة والحروب الأهلية والميليشيات والارتهان لدول أخرى، ما يستدعي الخزي والعار والانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الطويل الأجل، لا سيما في الدول الهشة التي تعاني خللا بنيويا يقودها عادة إلى حروب بلا نهايات لا تبقي ولا تذر.

تنتفي أسباب استمرار أعمال المقاومة المسلحة في الدول مع انتهاء الحروب والاحتلال، وتفضي التحولات الجوهرية التي تشهدها حقبة ما بعد الحرب إما إلى إدماج عناصر المقاومة في منظومة الدولة، مدنيا وعسكريا، كمكوّن وطني يساهم في نهوضها، وإما إلى تحول العمل المقاوم إلى “غزو مسلح” يطمح قادته إلى بسط هيمنتهم على مفاصل الدولة والاستيلاء على الحكم وإدارة سياسة الدولة مباشرة أو بالوكالة، لا سيما إن استأثرت بأعمال المقاومة فئة تتميز بفكرها وعقيدتها وتبعيتها وتنفصل عن مجتمعاتها. عندئذ، تستحيل هذه الجماعات إلى ميليشيات تستجر الخراب وتزعزع الاستقرار داخليا وخارجيا.

في أحد الاجتماعات التي ضمتها وعددا من المقاومين الفرنسيين، تقول المقاوِمة الفرنسية الرائدة لوسي أوبراك، التي يخلد ذكراها وبطولاتها العديد من الأفلام والمؤلفات والكلمات المأثورة:

“le verbe résister doit toujours se conjuger au present”، أي أن المقاومة فعل يتعين إعرابه على الدوام بصيغة الحاضر، في إشارة واضحة إلى انتفاء صفة المقاومة عن أي عمل مسلح خارج إطار الدفاع عن السيادة والاستقلال. وقد ألحقته بالقول إن استمرار السلاح بيد رجال المقاومة من دون ان تكون هناك أعمال مقاومة جارية ضد المحتل يجعل من هؤلاء الرجال وسلاحهم رجال ميليشيا وعصابات.

لا تقتصر هيمنة الميليشيات، عادة، على الجوانب السياسية، باستيلائها على الحكم فحسب، بل تتعداها سريعا إلى تطويع الاقتصاد لخدمتها وتمويل مصالحها، واستحداثها أجهزة بعيدا من مظلة الدولة لحماية استمرارية وجودها، متوسلة لذلك بالترهيب والاستكبار، واستباحة الدساتير والقوانين وثقافة المحاسبة التي تضمن العدالة الاجتماعية. ترسخ الميليشيات نفسها بقوة السلاح وسطوته صانعة للقرار، بل تصبح هي الدولة نفسها، وكلمتها هي العليا، مع ما يعنيه ذلك من دمار واندثار لمفهوم الدولة (The State).

لا شك في أن المال هو أحد المكونات الأساسية للسلطة، وتاليا لتنامي حجم هذه الميليشيات ودورها، فمن دون تمويل، تفقد هذه الجماعات جاذبيتها لجهة استقطاب المؤيدين، كما لمبرر وجودها وممارساتها، فدائما يغلب على أفرادها المسلحين أو المدنيين هدف الارتزاق وسمة “المرتزقة” عملا بقول المناضل والرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا، نيلسون مانديلا: “إذا قبضت المال ثمنا لنضالك فستتحول من مناضل إلى مرتزق!”.

ثقافة “التطبيع الاقتصادي الميليشيوي”

من أين يأتي المال وكيف تحولت هذه الميليشيات، ولا سيما في العالم العربي، وخصوصا في العراق ولبنان وسوريا وليبيا والسودان واليمن، إلى “امبراطوريات فساد مالي” أدت إلى انزلاق الدول التي تعتاش منها إلى الحضيض الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي.

تختلف ممارسات هذه الميليشيات باختلاف وجودها الجغرافي وطبيعة البلاد التي تنتهك أنظمتها وسيادتها وأهدافها وتبعيتها لقوى ودول تغذيها، إلا أنها تلتقي كلها على المنطق الذي يحكم ممارساتها، وهو منطق التسلط على دور الدولة ومواردها، وترتيب الصفقات و”تفخيخ ” التسويات التي تتطلب تقاسم الأموال والغنائم، وهذا ما يستلزم استمرار الحرب والاقتتال. كما تلتقي على واقع عرقلة التنمية الاقتصادية ومشاريع الدولة للسلام والتنمية، وتهديد بيئة الاستثمار وممرات التجارة وسلاسل التوريد، وتاليا الأمن القومي، وتنشئ كيانات موازية تسعى إلى إفراغ مؤسسات الدولة من مقوماتها ودورها، والهيمنة على مختلف القطاعات الاقتصادية وموارد “اقتصاد الدولة” باستغلال مناصب الإدارة بعيدا عن الإنتاج.

من أجل تحقيق هذه المصالح تبتكر طرقا ملتوية، تفرض الإتاوات وتستولي على عوائد الجمارك من خلال التهريب والسيطرة على المعابر الحدودية والتجارية، البرية والبحرية والجوية، وتنظم عمليات غير مشروعة من تهريب السلاح والنفط والمخدرات وغسيل الأموال، من خلال شبكات كبيرة ومعقدة من العلاقات مع عناصر وعصابات وقيادات أمنية حيث يصبح لها نفوذ واسع داخل هذه الأجهزة.

في المقابل، يشكل وجود الميليشيات المسلحة والحاكمة أحد أبرز أسباب الهجرة لفئة تعتبر ركيزة النمو والازدهار الاقتصادي من الشباب والمتعلمين وذوي الخبرات الفارين من أتون الظلم والجهل والباحثين عن فرص تلبي طموحاتهم بعيدا من الوطن، بينما يعتاش عناصر الميليشيات على السرقات ورواتب القطاع العام (أي مال خزينة الدولة التي يمولها سائر المواطنين)، بما يضمن الحفاظ على ولائهم، واستخدامهم حطبا في الحروب والصراعات، مع ما يستتبع ذلك من انهيار على الصعد كافة.

أخطر ما في “اقتصاد الميليشيات المسلحة” في الدول العربية، هو تطبيع حضورها الاقتصادي والمالي في الحياة اليومية للبلاد والعباد، وفي موازنة الدولة، وتحوّل ذلك إلى ثقافة راسخة كما هو جار حاليا، مما يسبب “تشوهات اقتصادية” تؤدي الى التفكك الاجتماعي وطغيان الفئوية والتعصب الحزبي والديني الذي تستغله الميليشيات بذكاء لكسب مزيد من الأتباع من خلال تزويدهم الخدمات الاجتماعية والمساعدات المالية والرواتب، وتقسيم المجتمع فئات، بالتزامن مع غياب سلطة الدولة وعجزها عن تأمين أبسط الفرص والخدمات لمواطنيها، ليتحوّل ذلك مع الوقت وقودا لحروب أهلية متناسلة جديدة.

لا يخفى على أحد أن إيران التي زرعت “الفكر الميليشوي” في عقر دارها عبر “الحرس الثوري”، صاحب الأذرع الطولى في الشرق الأوسط، تحديدا في لبنان وسوريا والعراق واليمن، تزكي طريقتها الميليشيوية في الحكم من خلال جماعات لا تتوانى عن إعلان ولائها الأيديولوجي من جهة أو لمصالح مادية صرفة.

يستدل على هذه الجماعات من الفساد المستشري في كل هذه الدول بلا استثناء، ومن تغييب مفهوم الدولة وضمورها إلى حد اعتبارها مصدرا لتمويل مشاريعها ووجودها فقط، من دون أي اعتبار لسيادة هذه الدول وحقوق شعوبها وخصوصية مجتمعاتها.  الجدير بالذكر أن الميليشيات النشطة في هذه الدول، لطالما اعتمدت على الفتاوى الدينية لشرعنة أنشطتها الاقتصادية غير المشروعة وتبريرها، وهي تستخدمها كإحدى أهم الأدوات لتهديد الدول العربية من الداخل، أو لمسّ استقرارها، مثل دول الخليج التي تلقت هجمات من الميليشيات الحوثية أو تهديدات بهجمات على بنيتها التحتية والمنشآت الاقتصادية والنفطية. أما ليبيا والسودان فليستا أفضل حالا وإن اختلفت الأسباب والجهات المنشئة للميليشيات فيها، داخلية أكانت أم خارجية، والداعمة لها والمرسخة لوجودها.

إيران “المرجعية” لاقتصاد الميليشيا

بدأت هيمنة الحرس الثوري  على الاقتصاد الإيراني في أواخر ثمانينات القرن الماضي تحت ذريعة ” إعادة الإعمار” عقب الحرب الإيرانية-العراقية، ليحكم قبضته على نحو 35 في المئة من أسواق العمل والاقتصاد في حلول عام 2005، وعشرات القطاعات الاقتصادية، وأصبح يدير آلاف الشركات بعشرات مليارات الدولارات يعمل فيها عشرات آلاف الأفراد، وتحصل على آلاف العقود الرسمية لتنفيذ مشاريع عامة وعلى غالبية المناصب في الحكم.

 

لـ “الحرس الثوري” باع طويل ورئيس في مبيعات النفط، التي تستخدم عائداتها في تعزيز الترسانات العسكرية وتمويل وكلاء إيران في المنطقة والعالم، لا سيما في الشرق الأوسط من خلال “حزب الله” اللبناني و”الحشد الشعبي” العراقي و”ميليشيا الحوثي” في اليمن، وعصابات ورجال أعمال وأفراد وشركات وهمية في مختلف أصقاع الأرض. لا يكتفي “الحرس الثوري” بما تموله موازنة البلاد، متخطيا ذلك إلى التجارة غير الشرعية من تهريب للنفط والمخدرات والأسلحة وشبكة دولية لغسيل الأموال، وهي عمليات ينشط فيها “فيلق القدس”، الذراع الخارجية لـ “الحرس الثوري”. وعلى الرغم من الأرباح الطائلة التي يحققها عبر اقتصاده الموازي، إلا أنه يحظى بتمويل سخي من موازنة الدولة، حيث تضاعفت مخصصاته في عام 2022 إلى نحو 22 مليار دولار، بحسب موقع  “ديفنس نيوز”، ارتفاعا من نحو 8 مليارات دولار في عام 2021، كما ورد في تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).

إفلاس لبنان نموذج “الجريمة الاقتصادية” للميليشيات

ينطبق المشهد نفسه على لبنان، حيث عاثت الأحزاب اللبنانية الطائفية، وعدد كبير منها ميليشيات سابقة، فسادا في البلاد زمن الحرب الأهلية، وفرضت ما سمي خلال الحرب الاهلية بـ “الإدارات المدنية” و “الصناديق الوطنية”، قبل أن يرتدي زعماء الميليشيات (مجرمو الحرب) ربطات عنق ويستولوا على الحكم لعقود طوال، فاستنزفت موارد لبنان وهجرت أبناءه، وأرست مجتمع الفساد والأزلام والمحسوبيات.

انتقل هذا الواقع مع “حزب الله”  لاحقا، شيئا فشيئا، إلى مستويات أدهى وأشد قهرا لموارد الدولة ومعيشة الناس، وبحجة المقاومة تم استنساخ نموذج “الحرس الثوري” داخل الدولة وخارجها، وعلى الرغم من الانهيار المالي والمصرفي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي والمعيشي غير المسبوق، الذي تئن من أوجاعه البلاد منذ أكثر من أربع سنين، لا تزال الأسباب الرئيسة قائمة إلى اليوم في رعاية “الحزب” وادارته وحمايته. فالأحزاب والتيارات السياسية على اختلافها لا تتوانى عن نهب الدولة وتطويع القانون والقضاء، والمحاصصة في الحكم والمشاريع العامة، واستغلال المؤسسات التي أضحت “شبكات منظمة” لتمرير مصالحها وضخ الأموال لها.

 

في الدول الطبيعية، تُموّل معظم الأحزاب نشاطاتها وبرامجها من اشتراكات العضوية وجمع التبرعات، ومساهمة رجال أعمال مؤيدين لتوجهاتها، في لبنان يتم ذلك من خزينة الدولة مباشرة، خصوصا أن لدى هذه الأحزاب المتغلغلة في شرايين الدولة آلاف الموظفين بدوام كامل (معظمهم في منازلهم) في ميادين شتى، من الجيش والأجهزة الأمنية والوزارات والإدارات على اختلافها، إلى المنظمات المدنية والدينية والمؤسسات التربوية والصحية، ووسائل الإعلام والجيوش الإلكترونية. ولم تتوقف الأمور عند نهب الرسوم والضرائب، التي يدفعها المواطنون الصالحون، بل تعدى ذلك الى نهب أموال اللبنانيين جميعا وودائعهم وتعويضاتهم ومواريثهم وجنى أعمارهم في المصارف الخاصة التي أفلست عن بكرة أبيها في يوم وليلة!

في مقدم هذه الأحزاب وممارساتها الميليشيوية، “حزب الله” اللبناني التكوين، الإيراني الانتماء. حيث عمل على بناء منظومة عسكرية مستقلة منذ نحو أربعة عقود، واقتصاد مواز عبر مؤسسات تجارية وغذائية ومالية وصحية غير خاضعة لسلطة الدولة، ترفدها إيران ماليا مباشرة من خلال توفير السيولة النقدية، وغير مباشرة عبر عمليات تهريب أو التهرب من الضرائب والرسوم الجمركية البحرية والبرية والجوية، بما يقدر مجموعه بـ 600 مليون دولار خلال السنوات الأخيرة.

وقد حرمت دويلة “حزب الله” وهيمنته على المرافق الحيوية للبنان الخزينة اللبنانية من عائدات الجمارك وساهمت في استنزاف إحتياط مصرف لبنان من الدولار، وتاليا وإفلاس الدولة. وحتى ما بعد الإفلاس في 2019، بقي”الحزب” يمتص مما تبقى، من خلال دعم البنك المركزي للمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الأساسية، والبنزين والمازوت اللذين جرى تهريبهما بعد ذلك إلى سوريا دعما لنظام الحكم فيها. وقدرت قيمة ما تم تهريبه إلى سوريا بنحو ملياري دولار في حينه.

 

تبتز الميليشيات العراقية التجار وتفرض الضرائب والرسوم غير القانونية على دخول البضائع عبر المعابر البرية والبحرية، وقد تصل العائدات السنوية التي تجنيها إلى نحو 11 مليار دولار

 

 

لم يكتف “حزب الله” بذلك، بل عمل على تأسيس الأسواق السوداء لتجارة المخدرات والدواء وغيرها من السلع، وهو الذي أدرك أن حجر الأساس لحرية تحركه وسيطرته المالية والاقتصادية المطلقة على البلاد، يقوم على بناء اقتصاد دويلته على السيولة النقدية (الكاش)، تفاديا للعقوبات الدولية والقيود المصرفية المرتبطة بتلبية القوانين الدولية لمكافحة التهرب الضريبي وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك بهدف توزيع رواتب عناصره والمساعدات السخية لأنصاره وسراياه وأبواقه الإعلامية.

 

وقد أدرج مصرفان، هما “البنك اللبناني الكندي” و”جمال ترست بنك” على لائحة ممولي “حزب الله” وتمت تصفيتهما بقرار أميركي عامي 2011 و2019 على التوالي. وكان “حزب الله” أسس “مصرفه” الخاص الذي يعرف بـ “جمعية القرض الحسن”، التي تعمل خارج النظام المالي والنقدي الشرعي، وباتت تملك عشرات الفروع المتوغلة في المناطق اللبنانية وتزدهر أعمالها في ظل ضعف دور المصارف التجارية المنهارة بفعل الأزمة المالية والنقدية التي يعاني منها لبنان، إذ وفرت منذ تأسيسها عام 1982 أكثر من مليوني قرض، بقيمة تفوق 4,5 مليارات دولار، مكفولة في معظمها بالمصوغات الذهبية العينية، فيما تخطى عدد “المساهمين والمتعاملين والمشتركين” معها نحو 400 ألف.

العراق: مصادر تمويل نفطية لا تنضب

أفضى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 إلى تهميش القوات المسلحة والمؤسسات الحكومية وتأجيج الاضطرابات والصراعات بين الميليشيات التي أبصرت النور آنذاك للسيطرة على مؤسسات الدولة. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بات سهلا لهذه الميليشيات استقطاب آلاف الشباب وتجنيدهم، إذ غالبا ما يتم استخدامهم كمقاتلين ولأغراض التجسس وتنفيذ هجمات إرهابية، وغيرها من المهمات.

وكما هي الحال بالنسبة الى الميليشيات المرتبطة بإيران، وفي مقدمها “الحشد الشعبي” و”حزب الله” العراقي، تجني الميليشيات أموالها من خلال المؤسسات الحكومية التي تسيطر عليها ومن الأنشطة التجارية غير المشروعة.

ولا يقتصر تأثير هذه الميليشيات على استشراء الفساد واستباحة ثروات البلاد والتهريب والابتزاز، بل أدى الاقتتال في ما بينها إلى تدمير البنية التحتية وغياب الاستقرار الاجتماعي، وإحجام الشركات الأجنبية والمصارف عن العمل في العراق والقضاء على فرص تنشيط الاقتصاد وتوفير فرص العمل لمئات الآلاف من الشباب ومتخرجي الجامعات العاطلين عن العمل.

 

ترفد هذه الميليشيات موازناتها من موازنة الدولة، حيث تنفق الحكومة العراقية نحو 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على قواتها المسلحة غير الرسمية. وقد زادت موازنة رواتب الميليشيات في العراق سنويا من 1,3 تريليون دينار عراقي (نحو مليار دولار) في عام 2018 إلى 3,5 تريليونات دينار (نحو 2,7 مليار دولار) في عام 2023. ويعزز التواطؤ القائم بين المسؤولين والأحزاب السياسية والميليشيات والعصابات ورجال الأعمال، تسهيل نهب الأموال العامة، خصوصا في ما يتعلق بعمليات التهرب الجمركي، التي تحول من خلالها ملايين الدولارات إلى تلك الجهات.وكانت وزارة المالية العراقية اعترفت في مارس/آذار 2021، أنه بدل الحصول على سبعة مليارات دولار من الجمارك سنويا، يصل إلى وزارة المالية 10-12 في المئة فقط من مواردها، وفقا لما ذكره المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات.

ويعدّ تهريب النفط ومشتقاته، لا سيما مادة البنزين، المصدر الرئيس لإيرادات الميليشيات العراقية، إذ وفقا لتقديرات شركة المنتجات النفطية الوطنية العراقية، بلغ حجم تهريب البنزين سبعة ملايين ليتر يوميا، وهو ما يقارب نصف الإنتاج اليومي الإجمالي للبلاد، ليباع في السوق السوداء إلى وكلاء إيران في سوريا و”حزب الله” في لبنان، مما كبد العراق خسائر بنحو ملياري دولار من عائداته النفطية بين 2017 و2019.

هذا فضلا عن تهريب الأموال من “العملة الخضراء” التي تجمعها الميليشيات العراقية من خلال ضلوعها في عقود المشاريع الخدماتية العامة عبر شركات وهمية وعمليات غسيل الأموال التي تدار عبر مكاتبها الاقتصادية وشبكاتها السرية. كما تعمد الميليشيات إلى ابتزاز التجار وفرض الضرائب والرسوم غير القانونية على دخول البضائع عبر المعابر البرية والبحرية، وقد تصل العائدات السنوية التي تجنيها هذه الميليشيات إلى نحو 11 مليار دولار. فوفقا لتقرير صادر عن كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، كانت الميليشيات تحصّل ما يقدّر بنحو 300 ألف دولار يوميا من الضرائب غير الشرعية، وفي بلدة واحدة فقط. كما تشير تقارير عن سيطرة الميليشيات على تجارة الخردة المعدنية حول الموصل، وشحنها إلى أماكن بعيدة لتحقيق أرباح إضافية بدلا من دعم إعادة الإعمار. وتتحدث أن إيران تلعب دورا كبيرا في التحكم بالقطاع المالي العراقي وسط تراجع دور المصارف العراقية، إذ تمتلك إيران أكثر من عشرة مصارف في العراق تعمل بشكل مستقل، كما اشترت مصارف إيرانية حصصا في مصارف عراقية أخرى، تدير عشرات المليارات من الدولارات من أموال الإيرانيين، مما يعكس استغلال هذه المصارف لتهريب الأموال من العراق إلى طهران كمتنفس من العقوبات.

 

وفي تقديرات للمركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، تسبب الفساد وسوء الإدارة وهيمنة الجماعات المرتبطة بإيران على مفاصل الاقتصاد العراقي، بضياع نحو 600 مليار دولار منذ العام 2003. ومن أبرز وجوه سوء الإدارة، تفشي ظاهرة المشاريع والتوظيفات الوهمية، إذ تشير التقديرات الى وجود 9 آلاف مشروع وهمي في العراق بقيمة تصل إلى نحو 200 مليار دولار، في حين أن التعيينات الحكومية المتضخمة التي وصلت الى ما يقارب 6 ملايين موظف، إضافة إلى 4 ملايين متقاعد، تستنزف موازنة الدولة، عدا كونها أفرزت ظاهرة الموظفين الوهميين من أشخاص مقربين من أحزاب السلطة يحصلون على رواتب تهدر من الموازنات أموالا طائلة.

فخر صناعات سوريا صار “الكبتاغون”!

من العراق إلى سوريا، الضلع الثالثة لنفوذ إيران في المشرق، حيث نظام الحكم متورط من جذوره في التعامل مع الميليشيات، خصوصا في تج والتي تدر مدخولا سنويا يقدر بنحو 5,6 مليارات دولار تجارة المخدرات اصبح اقتصاد سيما بعد فرض “قانون قيصر” الأميركي على النظام في يونيو/حزيران 2020 وحاجته لمصادر مختلفة من الدخل للإنفاق على أجهزته والميليشيات، حيث تقوم شبكة كاملة بالإنتاج وتهريب مئات ملايين الأقراص إلى الأردن وبقية الدول العربية. ووفقا للحكومة البريطانية، تنتج سوريا 80 في المئة من إنتاج الكبتاغون العالمي في نحو 11 مصنعا رئيسا وأكثر من 80 معملا صغيرا في مختلف محافظات البلاد.

 

 

يختلف الوضع في سوريا عن لبنان والعراق في كون النظام الحاكم أشد بطشا وتدميرا من الميليشيات نفسها، إلا أن البلاد مرتع للعناصر الميليشوية والمقاتلين وحتى الجنود النظاميين الذين تتنافس الدول على استقطابهم وتجنيدهم داخليا وخارجيا غب الطلب، لما يدر عليهم ذلك من أموال وغيرها من الإغراءات المادية. فعلى سبيل المثل، يتراوح راتب الجندي السوري بين 15 و35 دولارا، في مقابل 1,100 دولار تعرضها القوات الروسية على المجندين للالتحاق بالميليشيات التي تدعمها في سوريا.

 

اليمن وقراصنة “ميليشيا الحوثي”

في الانتقال جنوبا، توغلت إيران في منهجها التخريبي في الخليج العربي، حيث لعبت دورا كبيرا في تأزم الصراع في اليمن من طريق دعم الحوثيين ماديا وعسكريا، وتمكينهم من العبث والاستيلاء على مؤسسات الدولة بالكامل في مناطق نفوذ الجماعة الحوثية. على الرغم من ذلك، تعمد هذه الجماعة الى استحداث كيانات وهيئات موازية ومنافسة لتتمكن من الحصول على الإيرادات وتعزيز النفوذ، مثل الهيئة العامة للزكاة، والمؤسسة العامة للصناعات الكهربائية والطاقة المتجددة، والمجلس الاقتصادي الأعلى، وجميعها ذات طابع اقتصادي يهدف إلى الجباية وإفراغ جيوب اليمنيين. فبحسب تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، يتخطى حجم الأموال التي يحصل عليها الحوثيون من الجبايات والزكاة 1,3 مليار دولار سنويا، حيث يزيد بند الضرائب والجمارك والرسوم على ثلث إجمالي الإيرادات.

هذا بالإضافة إلى هيئة إدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعافي من الكوارث، المرتبطة على نحو غير شرعي بوزارة التخطيط والتعاون الدولي الخاضعة للميليشيا. أضف الى ذلك إنشاء “المنظومة العدلية” ككيان يسعى للسيطرة على المحاكم والقضاة وأمناء السر وموثِّقي عقود البيع والشراء، بهدف السيطرة على قطاع العقارات، الذي يدر عائدات سنوية ضخمة.

الأخطر من كل ما سبق، هو نشاط قرصنة هذه الجماعات عند مضيقي هرمز وباب المندب وفي البحر الأحمر، واستخدام ذلك للابتزاز وتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية الإيرانية من طريق الاعتداءات والترهيب وأعمال قراصنة محترفين ومزودين بكل وسائل الدعم والمساندة.

وكان الحوثيون باشروا أعمال النهب انطلاقا من فترة انقلابهم على الحكم اليمني، حيث وضعت الجماعة يدها على الاحتياط النقدي للبلاد المقدر بخمسة مليارات دولار. ويعتبر النفط الإيراني المهرب إلى ميليشيات الحوثي جزءا من مصادر ثروة القيادات الحوثية، فقد أنشأت هذه الميلشيات نحو 30 شركة نفطية تابعة للقيادات العليا لدى الجماعة،وتمتلك صلاحيات حصرية في الاستيراد عبر عدد من الموانئ، وتنشط في استيراد الوقود عبر شركات واجهة وشركات وسيطة، حيث بلغ حجم إمدادات الوقود إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون نحو 65 في المئة من الوقود المستورد.

ليبيا و”عسكرة الاقتصاد”

لأفريقيا قصة أخرى، إذ يقدر عدد الميليشيات التي تعمل في ليبيا مثلا بنحو 300 ميليشيا تتفاوت في التسليح والأعداد، وهي لا شك مسؤولة عن نشر الفوضى في شتى أنحاء البلاد، التي لا تزال بعد سنوات من إطاحة زعيمها الراحل معمر القذافي، من دون حكومة واحدة قادرة على بسط سلطتها على أرجاء البلاد.

وكان طرفا الصراع، الحكومة الشرعية، أو حكومة طبرق الموالية لخليفة حفتر الذي يقود الجيش الوطني الليبي، والمؤتمر الوطني العام الذي يُعرف أيضا باسم حكومة الإنقاذ الوطني التي تتخد من العاصمة طرابلس مقرا لها، قد اتفقا على دمج الميليشيات في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية وخروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا في يونيو/حزيران 2022.

 

وينوء الاقتصاد الليبي تحت سيطرة الميليشيات منذ عام 2011، حيث وصفت تلك المرحلة بـ “عسكرة الاقتصاد” للتعبير عن مدى النفوذ الذي باتت تتمتع به الميليشيات المتناحرة على حساب قيام الدولة. واكتسبت تلك الميليشيات شرعية من الدولة الجديدة، التي ألزمت نفسها تقديم الدعم المالي لكل التشكيلات المسلحة التي كانت تتوالد كالفطر، بحيث يكون الفساد عاملا لقيام هذه الميليشيات وليس العكس. أما المواجهات بين الميليشيات نفسها، التي وصلت إلى حد وصفها بالحروب الصغيرة، فليست بالطبع طلبا للسيادة والمصلحة الوطنية، بل للسيطرة على ممرات التهريب من سلاح ومخدرات ووقود وحتى البشر، التي تدر عشرات الملايين من الدولارات، بل إن عائدات تجارة تهريب المهاجرين قدّرت بنحو 90 مليون دولار وتتخطى 200 مليون دولار أحيانا. بفعل هذا “الكارتيل الاقتصادي”، نما الاقتصاد غير الرسمي خلال السنوات الأخيرة، وبات يشكل أكثر من 60 في المئة من اقتصاد البلاد. ونظرا الى فرص الإثراء التي توفرها السوق السوداء للعملة الليبية، فإن عملية صنع القرار في مصرف ليبيا المركزي معرضة للرشوة أو الضغط من الميليشيات التي تسيطر على شرق ليبيا وغربها على السواء.

وكان للحقول والموانئ النفطية نصيب من الممارسات الميليشوية حيث عمدت مجموعات مسلحة إلى إغلاقها على نحو غير قانوني مكبدة ليبيا خسائر قدرت بنحو 160 مليار دولار في السنوات الخمس الأولى من الأزمة. وتكرر الأمر في أبريل/نيسان 2022 حيث أغلقت ستة حقول نفطية ومحطات تصدير، أدت إلى انخفاض إنتاج النفط إلى نحو 400 ألف برميل يوميا، مقارنة بمليون برميل في مارس/آذار من العام نفسه، وفقا للمؤسسة الوطنية للنفط، وتُرجم ذلك بخسائر يومية بمئات ملايين الدولارات تحملتها ليبيا، وهي العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”.

وشكلت مبيعات النفط والبنزين والديزل التي اكتسبتها الجماعات المسلحة بطرق غير قانونية، عشرين في المئة من دخل هذه الجماعات.

ذهبُ السودان… ذَهب

يختلف المشهد في السودان، حيث حازت الميليشيات التي اتهمت بارتكاب أعمال العنف، دعما قبليا في بعض المناطق، وتنازعت في ما بينها على الأراضي أو المياه والنفط والحدود وتجارة الذهب المقدرة بملايين الدولارات والتي استأثرت بها “قوات الدعم السريع” بقيادة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ”حميدتي”، والتي اتهمت بانضمام عدد كبير من الميليشيات إليها، ولم تخف تعاونها مع قوات “فاغنر” الروسية التى استفادت أيضا من عمليات تهريب الذهب في مقابل التدريب والتسليح.

 

يقدر اقتصاديون الخسائرالاقتصادية للسودان بنحو 100 مليون دولار يوميا، في حين أن قيمة السلع والممتلكات المسروقة من الشعب السوداني قد تصل إلى أكثر من 40 مليار دولار

 

 

في المقلب الآخر، وفي حين تتفاقم معاناة الشعب السوداني من البطالة والفقر، كان الجيش السوداني يستولي على نحو 80 في المئة من المال العام من خلال شركات تجارية تابعة له، من دون رقيب أو حسيب من الدولة، واستغلت هذا الأموال لأغراض سياسية منها بناء قاعدة اجتماعية موالية له من مدنيين وجماعات أهلية وناشطين، كما كانت الحال في ظل حكم عمر البشير الذي تمت إزاحته عام 2019.

 

 

ويتناحر الفريقان، الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع” منذ أبريل/نيسان الماضي، متنافسين على إدارة البلاد و”نهب خيراتها”، كلٌّ لتعزيز موقعه أو حفاظا عليه، وتعكس “الأرقام المرعبة” فداحة أثر هذا التناحر على الاقتصاد والشعب السودانيين، إذ قدّر اقتصاديون الخسارة الاقتصادية بنحو 100 مليون دولار يوميا، في حين أن قيمة السلع والممتلكات المسروقة من الشعب السوداني قد تصل إلى أكثر من 40 مليار دولار.

 

لا قيامة للاقتصاد معها 

على عكس تجارب “المقاومات الوطنية” الصادقة المرتبطة بزمان ومكان محددين، لا يوجد زمن حرب أو زمن سلم بالنسبة إلى الميليشيات، فهي دائما، تقتات على الصراعات والحروب والنزاعات الأهلية بين الشعوب. يرتبط مفهوم الميليشيات بالتسلط والتشبيح والتهريب والمخدرات والسرقات وإفلاس الدول وخراب مؤسساتها، التي تنخرها لتتحول الى هياكل عظمية… لا قيامة لـ “اقتصاد الدولة” في ظل هيمنة “اقتصاد الميليشيات”.