استقصى مؤلف “المدخل إلى التاريخ والأدب العربيين” المسألة في الشرق والغرب ودان ابن سلام وكهنوته ووثق انتحال ديكارت للغزالي

قدم نجيب البهبيتي سردية عربية للتاريخ والأدب القديم مدعومة بالأدلة والبراهين في مواجهة الاستشراق   (اندبندنت عربية)

ما زلنا في ثنايا الخصومة التي دارت بين طه حسين،.  نجيب البهبيتي فبعد ما قدمه الأخير في كتابيه “أبو تمام الطائي حياته وحياه شعره”، وتاريخ الشعر العربي حتى أواخر القرن الثالث الهجري”، يأتي كتاب “المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين” للبهبيتي في طبعته المغربية الثانية عام 1985 ليضع المستشرقين وطة حسين  تحت قصف عنيف. ففي هذا الكتاب أطلق شرارة غضبٍ لم تهدأ حتى نهاية كتابه الضخم الذي تضمن بين دفتيه ثلاثة أجزاء جاءت في 660 صفحة.

بلغة ثائرة يبدأ البهبيتي التمهيد لكتابه عن العلاقة القاسية بين الشرق والغرب، بين العرب وأوروبا، فيقول “كتابة التاريخ في العصر الحديث تأخذ صورة معركة قاسية عنيفة تشنها علينا وعلى الحقيقة التاريخية أوروبا منذ عهد بعيد”.

بعدها يقدم نبذة مكثفة عن طبيعة هذه العلاقة قبل الحروب الصليبية، مشيراً إلى اتصال الغرب بعلوم الشرق ومعارفه عن العالم القديم والجديد و”انتحال (أوروبا) الماضي الحضاري لأجناس ادعت أنها منها وهي ليست منها، في كثير ولا قليل، ليقطعوا بين العرب وماضيهم ويصبحوا (العرب) شجرة من غير أصل فتموت ليبقوا هم حيث بلغوا”.

يلفت النظر إلى ما وصفه بـ”مطية خادعة” بحسب توصيفه، تمثلت في الحيلة الأوروبية التي انخدع فيها الكثيرون من جيله وهو أحد الذين كانوا على مقربة من دوائر المستشرقين، فيقول، “الغريب أن الكثيرين منا خدعوا بهذا الهراء (القطيعة التاريخية بين الحقب العربية) وأصل الانخداع أنهم خرجوا علينا من مكمن خلف دروع من دعوى العلم والبحث، وكانت أجيالنا لا تزال تهيم في دغش الفجر من نعاس اهتبلناه”.

يشير بأصابع النقد إلى مناهج الأزهر آنذاك فيقول، “كانت طريقتهم تخالف الطريقة التي بقيت عندنا في فترة التخلف من طريق العمل العلمي الذي شق آباؤنا مسالكه، فلم يبق لنا منها إلا ما رسب في الأزهر ماثلاً في كتب الحواشي والمتون فطرنا بالإناء فرحاً، وتلقفنا السم الذي يفعمه خالطين بين الوعاء وما في الوعاء، فقدموا لنا ما شاءوا وصوروا لنا الأمور على ما حلا لهم، وأطلقوا بيننا صنائعهم يدعون لهم، ويرفعون من شأن علمهم، ويتظاهرون في نشر سمومهم بأنهم هم المبتكرون لما يُنهونه (ينقلونه) إلينا عن سادتهم وصانيعهم”.

يتابع، “بذلك مكناهم من تاريخنا ومن تفكيرنا وعاشت بيننا طائفة تتظاهر بالعلم الحديث والمنهج الأوروبي المبتكر، وما هي إلا أبواق تخدم الاستعمار الفكري وتهدم الماضي القومي بأكثر مما كان محترفو السياسة المصنوعون يخدمون الاستعمار السياسي والعسكري الهادم لمقومات النهضة القومية”.

بعدها يفصل القول بعدد من البراهين التي يوردها على صنيع أوروبا، وفي لمحة ذكية يشير إلى أن “أوروبا لم تكن تزيد على هذا القدر من الاستعداد ولا العطاء يوم دخلت سوق العمل الفكرية تشد به ظهر عملها السياسي وعملها العسكري، فكان العمل الفكري هو الشطر النفسي في حربها المعلنة على العرب إلى جانب العملين السياسي والعسكري (في إشارة إلى صنيع الاستعمار الذي عاصره في البلاد آنذاك)”، يتابع، “ولما فل الأخيران ظل الثالث عاملاً يحمله ذوو العاهات الفكرية منا دُمى خشبية تحركها بالحبال خلف الستار أيدي أصحاب المصلحة فيها”.

يشير بدوره إلى ما يتلمسه هو نفسه في أسلوبه من تعصب فيقول، “ولا ترمني بتهمة التعصب فسترى حين تمضي في هذا الكتاب إلى انعدام القواعد التي بنى عليها الأوروبيون دعواهم، وزيفوا بها ما قدموه تحت اسم العلم والتاريخ والبحث والنقد الجديدين”.

“النشوء الفكري لأوروبا”

يمضي البهبيتي قدما في عرض مقدماته ويبرهن من واقع ما سجله كتاب أوروبيون بينهم الأكاديمي الأميركي جون وليام دريبر في كتابه “تاريخ النشوء الفكري لأوروبا” عن أحوال أوروبا في العصور الوسطى قبل الاتصال بالشرق ومعارفه التاريخية والأدبية والفلسفية وغيرها عبر بوابة إسبانيا (الأندلس).

في الأثناء يعقد مقارنة بين دريبر وطه حسين تحت عنوان “نموذج كئيب للتأثير الأوروبي: طه حسين”، ومما جاء فيه، “من التناقضات الصارخة في قصة التاريخ العربي بَين من أهّــل نفسه للقول فيه وبين من لم يحصّل شيئاً من وسائله، ولكنه اقتحم بابه اقتحاماً من غير تهيؤ أو استعداد. ما هو قائم أمامي من التفاوت الواسع جداً بين رجل غير عربي مثل دريبر وبين رجل نشأ في العرب وقذف بنفسه على تاريخهم مثل طه حسين. الأول يقول استنتاجاً مما قرأ وفهم ووعى والأخير يسوق القول اعتباطاً ويلقي به جزافاً في غير احتياط. وفي غير تراجع إلى ضمير يحتكم المؤرخ الحيي العف إليه، قبل أن يقضي في المسألة التاريخية الواحدة قضاءه، ويصدر حكمه”.

يتابع، “دريبر هنا لم يرجع في حكمه إلى مراجع كان من المستحيل أن يرجع إليها طه حسين، فالرجل في قياساته واستدلالته يرتد إلى مفاهيم مشتركة، وإلى مراجع قريبة قائمة بين يدي كل من قرأ عن العرب وعن تاريخهم، مفاهيم تستفاد من أقرب وأشهر ما هو معروف في حياة الفتح الإسلامي، وتستفاد مما يترسب في قاع وعي القارئ العام فضلاً عن الخاص عن الحياة العربية”.

عصف ذهني

بعد جولة سريعة عن توليد علوم الحساب والجبر لاحتياج الدولة الإسلامية التي اتسعت رقعتها لحساب الجزية وغيرها بما تضمنه من ابتكار الأرقام والتي تكونت بدورها من من واقع التكوين الاجتماعي، وهي إحدى بديهيات (علم الاجتماع) الذي ضم فصوله المتفرقة في كتب العلماء العرب ابن خلدون وعنه أخذ الأوروبيون”. يغمز طه حسين بالقول، “كنا نرجو أن يذكر تلك الأوليات من (علم الاجتماع) الذي يدعي أنه (كتب) فيه رسالة خاصة حصل بها على (الدكتوراه) وإن كانت جامعية من باريس، وأقول (كتب) وأنا أدري دلالتها حق الدراية”. في إشارة إلى أن طه حسين كان “بصيرا” يُملي ولا يكتب. لينهال عليه بالأدلة والبراهين من واقع العرب وما سجلته المصادر العربية كالطبري ناهيك عما ورد في التاريخ القديم (اليوناني والروماني)، مجال تخصص طه حسين الذي درّسَه في جامعة القاهرة.

يعقب البهبيتي بعد مقارنته بين دريبر وطه وفي معرض ما (كتب) فيه رسالته عن ابن خلدون “لكن الرجل لم يذكر للأسف هذا، ولست أدري إن كان هذا لقِصر ذاكرته، أو لنقص في قدرته على استيعاب جوانب القضية الواحدة، واستحضار أطرافها مجتمعة تحت رأيه الذهني، وكلاهما لا يؤهلان الرجل للدخول على البحث العلمي”.

يتابع، “وليس للحكم على الرجل الذي ضل كل هذ الضلال في ميدان البحث حتى فقد هذه الآليات من تكئات الحكم وإسناده إلا هذا الذي قلته (أنه كتب)، وأنه لا عذر له أن نقوّله فيه، لأن البديل له لا ينصفه من التاريخ بقدر ما قد يساعد على إنصافه”.

“ذلك أن لو افترضنا في الرجل القدرة على تذكر هذا عند خروجه إلى الأحكام التي قدمها في كتابه (الشيخان) ورفض فيه إحصاءات القتلى والجرحى من الروم أو الفرس وإحصاءات العرب الجيوش العاملة في المعسكرين المتقاتلين واحتكامه إلى التزييف (نقص وجود إحصاء دقيق)، وحين لم يكن للناس علم بمناهج البحث والاستقصاء وتحقيق التاريخ لقلنا أنه غير سليم النية وهو ما لا أريده، وهذا التداري وراء مناهج البحث والاستقصاء حيلة لا تكشف عن براعة في الاحتيال ولا قدرة عليه”.

وجه آخر للمعركة

في سياق آخر وتحت عنوان “مغامر في العلم” يقول البهبيتي، “طه حسين لم يقرأ شيئاً إلا أتفه ما يقرأ في سبيل ما كان يلتزم القيام به من كتابة التاريخ الإسلامي، ثم إنه كان جريئاً مقداماً اعتاد الوصول إلى الشهرة من أيسر السبل وقد جرى على هذا في كل ما كتب”.

يوضح، “يكفي أن تعرف أن أكثر من نصف كتبه مجموع من مقالاته الصحافية التي كان يكتبها كل أسبوع، وأحياناً كل يوم فهي لا تكلفه إلا سحابة نهار. وكتابه على هامش السيرة، فضلاً عن استقاء موضوعه من كتاب الأخوين جيروم وجان تارو (خيل الله) لم يرجع فيه إلى ما وراء (السيرة النبوية) لابن هشام. ولو كلف الرجل نفسه بقراءة ما جاء عن حروب التحرير الإسلامية في كتاب واحد كالطبري لجنبه ذلك كثيراً”.

يتابع، “على أصحابه أن يقنعوا بهذا فإنهم إن هم أصروا على أنه كان يعرف هذا الذي أتهمه بجهله، وضعوه موضع التهمة ووصموه بسوء النية وما ذهبت إلى هذا”.

ومما أورده على لسان دريبر في المجلد الثاني من كتابه ما سجله، “إني حزين لهذا الاتجاه المنظم المخطط الذي تواطأت على السير فيه الكتابات الأوروبية، في سعيها جاهدةً إلى إخفاء ديوننا العلمية للمسلمين، ولا شك عندي في أنها لن تظل مكتومة أمداً طويلاً فالجور المبني على الحقد الديني أو الغرور القومي لا يمكن أن يمضي خفياً إلى الأبد”.

 يعقب البهبيتي، “هي إذن حرب فكرية يعتبرها دريبر امتداداً نفسياً وعقلياً للحروب الصليبة همها ابتلاع تاريخنا”، ليعرج بعدها على صنيع المستشرقين ويرصد على سبيل النموذج بعض ما قدموه عن التاريخ العربي ويستقصي أثره ليبرهن على مذهبه وموقفه مما أشاعوه من نتائج ضلت طريقها عن عمد.

ابن سلام وصراع الكوفة والبصرة

يمضي البهبيتي قدما في عدد من المسائل على صلة بتاريخ الكتابة واللغة وعمر العربية من بينها، وما تفرع عنها من لهجات، ومنها إلى الشعر والصراع المعرفي بين مدينتي البصرة والكوفة، وبلغة عنيفة يقف ليسائل نقديا ابن سلام الجمحي (البصري)، الذي إليه يعود الشك في الشعر الجاهلي قديماً وحديثاً، ليكشف خطأه. وهو ما اتفق عليه جمهرة المحققين، ليبرهن بالكثير من المرويات والأخبار واللغة أن بضاعة ابن سلام شأنه شأن أهل البصرة كانت فقيرة (رغم ما زعم لأحكامه من كهنوتية) قياساً بما كشفته مكتبة المناذرة بالحيرة وأثرها في ثراء رواية أهل الكوفة، وأمور أخرى كثيرة.

يخلص البهبيتي بعد فصل مطول من الأدلة والبراهين، إلى أن “ابن سلام كان يكتب خبطاً من غير دليل، منصاعاً لنزعة عصبية ساحقة”.

يسجل في سياق آخر، “لقد عمر ابن سلام وتوفي في سنة 231 ه، وقال ما قال انتحالاً لعلم لا يُثبتُ له كتابُه له منه القدر الكبير، فاتخذ من الجهل بحقيقة ما كان عند الكوفيين وسيلة للطعن على ما حرم منه، والتمس التعللات الذوقية الصرفة وانحرف الانحراف البالغ الفادح في اصطناع التعللات المنطقية، ووجه الأخبار المتصيدة من أقوال السابقين توجيهاً أخل بدلالاتها ليخلص منها مرتكزات مهتزة، ظن أنه إذا قام عليها عصف بما عند خصومه ففشل حقاً. وأسقطت الأجيال اللاحقة به في هدوء ادعاءاته العريضة فلم يدخل القرن الرابع ويتقدم البحث حتى سمعنا ابن فارس وابن جني (بما شهدا به من علم الكوفيين بالشعر)، وقد أثار ابن سلام بعمله الفج غباراً من الشك في فترة، ثم تساقط الغبار لم يعم به أحد”.

غبار المعركة

يرصد بعدها زحف الشعوبية الحديثة على أثر ابن سلام، وكيف اعتمد المستشرقون في قضية الشك في الشعر الجاهلي على “حائط مائل” على نحو ما يصف، ليتطرق بعدها إلى ما جاء به طه حسين، ويعده بوقاً من أبواق الاستشراق، وينهال عليه بسخرية وغضب عبر مرويات يوثقها، وقعت حقاً مع طه حسين.

يروي البهبيتي أن سائلاً في المغرب سأل طه عام 1958، “ما بالك قد ارتددت قبل اليوم عما كنت تقول به في مستهل دخولك على العلم؟”. فكان رده، “يكفي أني أثرت بما كنت أقول به إذ ذاك العقول إلى البحث والنظر”.

ليؤول البهبيتي القول مختزلاً طه في كتاباته الأولى من دون النظر إلى تطور مشروعه، فيقول، “وليس يكشف عن المعنى الكامن وراء هذا الاعتراف الضمني بالإقدام على المحارم إلا حوار آخر دار بين صحافي وبين طه حسين ونشر في “اقرأ” العدد 301، وكان طه سئل بعد 40 سنة عن سبب الحملة على مصطفى لطفي المنفلوطي فأجابه وهو يبتسم، (كنت شاباً يريد الشهرة على حساب كاتب معروف). فأخبره الصحافي: لقد أفرطت وتطرفت في النقد فقال له طه مقاطعاً، (تعني طول لساني إن سببه في رأيي هو عنف مزاجي ولعل هذا السبب. ولا سبب غيره)”.

يخلص البهبيتي وفق توصيفه، “هكذا في خفة على نفسه، وفي هوان وراحة من ضميره، وفي ابتسامة راضية ذاكرة طافحة بالسعادة بما ركب في حربه للنور والقيم يرد طه حسين. فلا قيمة لحق ولا مكان لعدل ولا وزن لتاريخ في سبيل تحصيل الشهرة فليهدم الذنيا إذن ليشتهر”.

 يشير أيضاً إلى هجومه على سعد زغلول، والدور الذي لعبه طه في السياسة عبر مقالاته والثمار التي جناها إثر هذا لتكون له جسراً، وتصبح في مسيرته المفتاح الذي بمقدرته فتح كل الغرف ويعرج على كتاباته سريعاً ينسفها نسفاً في باب كامل تضمن 10 فصول وجاء فيما يزيد على الـ80 صفحة.

يواصل، “ولست أقول هذا تجنياً ولا رجماً بالغيب ولكني أقوله بناء على ملابسة متصلة لعلم الرجل اتصلت فيما بين سنة 1929 إلى أن خبا الرجل في حياته: أسمع منه وأحاوره وتتيح لي الفرص المتكررة الغوص إلى أعماق نفسه فيزعجني ادعاؤه من العلم ما ليس له”.

يذكر البهبيتي أيضاً أن طه لم يكن له نصيب من المعارف اليونانية واللاتينية التي “طالما تبجح في القول بأنه من مغاويرها حتى قدم منها يوماً تلخيصاً لطائفة من المسرحيات ترجمها عن الفرنسية التي لم يكن يعرف من لغات الأرض سواها فوهمها بعض الناس مترجمة عن اليونانية”.

طه حسين وحديث الشك

يورد البهبيتي ما ذكره طه حسين في كتابه “من بعيد” وكيف تنامي إلى مسامعه أول حديث للشك عبر عالمين خطيرين أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي وهو الأستاذ “دوبريل” ألف منذ حين كتاباً في تاريخ الفلسفة اليونانية زعم فيه أن “سقراط شخص خرافي لم يوجد ولم يعرفه التاريخ. وأن خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في هوميروس كلاهما شخص آمن بهد القدماء وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط”. لينهض الأستاذ الفرنسي “لفيفر” من علماء مدينة “ليل” ويرد ما أثاره نظيره البلجيكي “دوبريل”.

يعقب، “وانظر كيف وقع هذا التشكيك في وجود سقراط في نفس طه حسين يوم كان لا يزال خالي الذهن من (مشروع الشك في كل شيء)”، باعتباره أداة يمكن أن تستغل لتؤدي إلى الشهرة التي لم يكف يوماً من أيام حياته عن السعي في طلبها مهما كان الثمن لتحقيقها”.

وبصرف النظر عن توجيه البهبيتي لسيرة طه حسين فإن أحد تلامذة العميد النجباء الناقد عبدالمنعم تليمة كان قد أشار إلى واقعة تنامي الشك في شخصية سقراط  وكونها خرافية، ناهيك عن تصريح طه بالأساس في كتابه “من بعيد”.

على الحياد

يقول تليمة بعدما عرج على ما أثاره المستشرقون من شك في الشعر الجاهلي، “وبدهي أن طه حسين قد قرأ عمل المستشرقين في هذا الشأن، وأنه اطلع على دراسات أوروبية تشكك في الوجود التاريخي لسقراط وهوميروس وغيرهما من أئمة الثقافة القديمة فأغراه كل ذلك إغراء بالتوسع في القول بانتحال كثرة الشعر الجاهلي”، هذا مع إشارة تليمة إلى الباب الواسع الذي فتحه طه أمام النظر في التراث وتقويمه، بالإضافة إلى ما ذكره عن أن “جهود المستشرقين في خدمة التراث العربي وتحقيق آثاره حسب المناهج المشهورة مشهودة وانتفاع العرب المحدثين بها ثابت معروف. بيد أن بعض نتائجهم واستخلاصاتهم في مسائل بأعيانها يحتاج إلى نظر وتقويم من ذلك مسألة انتحال كثرة الشعر الجاهلي”.

 

يزيدنا محمود شاكر عن طه حسين، بما نصت عليه مقالاته التي نشرت في صحيفة “البلاغ” عام 1937، رداً على طه بعدما شكك في نسب المتنبي، فيقول، “إن الدكتور طه حسين رجل عبقري ليس في ذلك شك عندي، فهو من قبل شكه في نسب أبي الطيب قد استطاع أن يشك في الشعر الجاهلي وفي أشياء كثيرة! واستطاع أن يتغلب بتوفيق الله له على خصومه والمناوئين له، واستطاع أن يقوم كالجبل لا يعمل فيه السيف عمل السيف، ويعمل هو في السيف عمل الجبل في تثليمه وتحطيمه وتكسيره”. ويشير إلى أن لا كتاب “مع المتنبي” ولا صاحبه كشف عن دافع قوي وراء هذا الشك وما هي إلا مزاعم مردودد عليها.

وفي سياق آخر يقول شاكر عنه، “إن الدكتور طه رجل ذكي صاحب حيلة ونفاذ فربما رأى الرأي فأراده ليتخذه رأياً، فيختلق له الأسباب، فيرى الأسباب لا تغني في الرأي، وأن الاعتراض يأكلها سبباً سبباً فيحتال بجعل الاعتراض في سياق قوله، ويأتي به على وجهٍ ليجعله ظهيراً لرأيه وهذا الذي نقوله ليس بزعم من عند أنفسنا”. بعدها يورد جملة من البراهين من واقع ما ذكر طه حسين “مع المتنبي”.

الغزالي وديكارت وطه حسين

أما البهبيتي وبعدما أشرنا إليه، ذهب ليكشف الكثير عن منهج الشك، وألمح إلى ترجمة كتاب ديكارت “مقال في المنهج” عام 1930 لمحمود الخضيري أول قسم الفلسفة، وما قدم حوله من توضيحات عميقة عن منهج الشك، “بحيث أفزع طه فطارد الشاب الفيلسوف في حياته وأبى عليه أن يدخل إلى هيئة التدريس في كلية الآداب فحرّمها عليه تحريماً على حين أطلقها لكل ناعق، وظل الخضيري يلقى إخوانه شاكياً الظلم الذي نزل به إلى أن لقي ربه وهو يعمل في الأزهر”.

بعدها يقدم تفصيلاً جزئياً لمنهج ديكارت ويقدم بحثاً استقصائياً حول جذوره وسياقاته التاريخية وطبيعته ورد الفعل الغربي تجاهه والمحاذير التي وضعها هو نفسه في تطبيق منهجه.

عرج البهبيتي خلال كل هذا على الأصل المشرقي للعلوم الأوروبية مصطحباً معه المرويات التاريخية والنصية وشهاداته بعض مؤرخي الغرب، ليتوقف على وجه التحديد بين ما قدمه أبو حامد الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلال القرن الخامس الهجري الـ11 ميلادي وبين صنيع ديكارت في القرن الـ16 أي بعد بما يقارب الخمسة قرون، ومهد له بالاتصال المبكر بين الشرق والغرب . وتطرق أيضا إلى ما نسب إلى أرسطو من كتب، وهي إشارة أكدها أكثر من مؤرخ بينهم صاحب “التراث المسروق”، بالإضافة إلى تكرار أمر العلاقة عبر بوابة إسبانيا (الأندلس)، ومن قبله ما ذكره الجاحظ عن الشك في طي حديث له عن المناظرات، وكيف كان هذا الإرث العلمي العربي نواة أسست عليها أوروبا تقدمها في عصر النهضة ثم تنكر غالبية علمائهم إليها، ونسبوه إلى أنفسهم دون الإشارة إلى أصحابها. مستشهدا ببعض مما أورده مؤرخوهم بينهم الفرنسي بول هازار صاحب كتاب “أزمة الضمير الأوروبي”. ووسط هذا وغيره لم يترك سياقا ولا سبيلا ينال من طه إلا سلكه.

شاهد على العصر

يروي شهادة معاصر للأحداث فيشير إلى ما ذكره طه “بين يدي كتابه (في الشعر الجاهلي) موجهاً إهداءه إلى رئيس الوزراء عبد الخالق ثروت (ممثل العدليين المقرب من القصر آنذاك)، (أنه الآن يتفرغ لعمله الجامعي بعد عمله السياسي)”.

يعقب البهبيتي، “وبهذا صار (نفي الأدب الجاهلي) مادة لملء ساعات درس (الأدب الجاهلي) وهذه هي الحقيقة التي لحقناها وأدركناها حساً ومفهوماً بقسم اللغة العربية عندما جئنا نطلب العلم في كلية الآداب سنة (1929 _ 1930). والتحقنا بقسم اللغة العربية، لم يدرس الأستاذ لنا قصيدة جاهلية واحدة، بل إنه لم يشرح لنا بيتاً جاهلياً واحداً، إنما كان شغله الذي يملأ به ساعات العمل هو مادة كتابه الذي عدله وقدمه تحت عنوان (في الأدب الجاهلي)”.

يضيف، “فأما اتصالنا بهذا (الأدب) ذاته فقد وكله طه حسين إلينا نحن الطلبة تحت شعار أبحاث يدير كل طالب منا واحداً منها باسم شاعر من الشعراء الجاهليين. كان همه من ذلك أن ننتهي إليه هو في محاضراته التي كان يقدم فيها محتوى كتابه. وكم كان يفزعه أن ننقض رأيه استدلالاً بما كنا نجده في الشعر نفسه من تناسقه مع التاريخ”.

بعدها يورد نص ما قدمه رئيس نيابة مصر آنذاك محمد نور، ويعده أنقد ناقدي طه حسين، وهو من “كلف بالتحقيق مع طه حسين، ويشيد بما قدمه من نتائج علمية دقيقة على هدي مكين من انتظام فكر القاضي وسلامة استدلاله”. وفي الفصل الذي يليه قدم قراءة نقدية حول ما ورد بالقرار والسياق الحزبي والسياسي الذي رأى البهبيتي أن طه حسين استثمره في حماية مكتسباته قبل أن يثير الجدل بكتابه.

بعد رحلة فكرية شاقة بين الغزالي وديكارت يكشف خلالها عن الأصل والصورة، ويتوصل إلى الهوة السحيقة بين صنيع الأول والأخير، وكيف بات ديكارت “المنتحل” مدرسة انتهجها المستشرقون، ليربط بينهم وبين طه حسين الذي سمع به، فيما أقصى محمود الخضيري بعدما توسع بترجمة “مقال في المنهج” عن الفرنسية، وفق البهبيتي.

 يخصص البهبيتي الفصل السابع الذي عنونه بـ”صراعي مع الغدر” لطه حسين، وفيه يحمل كل نقيصة، مع بعض الإشارات التي أدت بطه حسين لمواطن الزلل بينها أن طه زمن كان في الأزهر “لم يكلف نفسه بقراءة شيء عن الغزالي، العالم المتصوف الذي خاض من بين العلماء عامة أخطر تجربة إنسانية خاضها رجل لتحقيق الأسس التي يقيم عليها أحكامه ويبني عليها نتائجه، ولعله لو قدر له ذلك ثم وقف بمؤتمر العلوم التاريخية في بروكسل عام 1923 على ما سمعه من منهج ديكارت والشك الذي دار عن سقراط وهوميروس وغيره، لعرف التفاوت المحقق بين منهج ديكارت وعجزه ولأدرك في غير عنت مصدر هذا المنهج”.

يتابع، “لكنه كان قد اختار الطريق السهلة وكان فوزه الصحافي حبيساً في دائرة السادة المؤثرين النافذي الكلمة، وأصحاب الأمر القادرين على النفع والضر والبعث والحبس هو بدء منطلقه في الحياة، والعامل الذي لقنه الدرس الرديء الهادئ إلى وجوب تحصيل الشهرة عن طريق مناهضة ما عز عند الناس ووقع عندهم موقع القيمة والنفاسة، فهو يهاجم ألمع الرجال بدء من سعد زغلول والمنفلوطي وشوقي، حتى إذا بلغ مرحلة العمل الذي فتحه له هذا النهج تحول من الهجوم على الرجال إلى الهجوم على التاريخ”.

خلف أسوار الجامعة

يشير من دون أسماء إلى تلامذته ويطيل حول طبيعة وآلية العلاقة النفعية التي ربطتهم به ليوضح، وفق منظوره، “كيف خلق (طه) طائفة لا تعيش إلا بالولاء له والاعتماد التام عليه، والشعور بالتلازم بين وجودها ووجوده فهي لا تتشدق إلا بأستاذيته وهو لا يتحدث إلا عن تلاميذه، وهكذا يعيش الأستاذ في عقول طلبة الجامعة بفضل أعوانه فيها ويكبر هؤلاء الأساتذة عند الطلبة بفضل انتحالهم شرف تكبير طه حسين لهم”. ومن أسف أن “صراعات الولاء” هذه ما زالت تدور رحاها في ساحات الجامعات المصرية إلى يومنا هذا، ولعل الرجوع إلى ما ورد في السير الذاتية لكبار الأكاديميين في مصر، بينها “ذكريات” حسن حنفي، والسيرة العلمية للدكتور حسين نصار “التحدث بنعمة الله”، يكشف جانباً مروعاً عن طبيعة هذه الصراعات.

من أهم الشهادات التي ذكرها البهبيتي، ولها دلالتها العميقة في طبيعة الخصومة بينه وبين طه حسين، قوله، “وإني لأشير في هذا المقام إلى أن ضجيج هذه الطائفة وعجيجها باسم طه حسين إبقاءً على أنفسهم وعلى مستندهم في الوجود الوظيفي والفكري وفي النجاح المادي مضافاً إليه التبدل السياسي الذي حل بمصر سنة 1952 هما العاملان الجذريان اللذان أبقيا اسم طه حسين في السوق بعد أن كان قد طرد منها نهائياً مذ ظهر كتاب (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث) عام 1950”.

يضيف، “بعد أن نشرت جريدة (الأساس) القاهرة بقلمي مقالين في مطلع 1951 واجهت الرجل فيهما بحقيقته وهو في عز سلطانه وزيرا (للمعارف) بوزارة الوفد الأخيرة”. وباعتباره رئيساً للمجلس الأعلى للجامعة طالب بالتحقيق مع البهبيتي.

يوضح، “كنت إذ ذاك مدرساً بكلية الآداب بجامعة القاهرة فطلب التحقيق رسمياً، وتم له ما أراد، ولكن لجنة التحقيق بعد مواجهتي في جلستين طويلتين قضت بأن (ما كتبته إنما هو من قبيل النقد المباح الذي لا يؤاخذ عليه صاحبه)”.

يواصل، “كنت قد طردت قبل ذلك آراء طه حسين من الجامعة، ثم جاء (تاريخ الشعر)، (أطروحة البهبيتي للدكتوراه)، فطردها من السوق. ثم كانت الواقعة الأخيرة فأجهزت بها على ما كان قد تبقى له من اسم عند غير المتخصصين حتى أقبل بعضهم على مهنئاً بأني سأكون (عميداً للأدب العربي) بعد سنتين اثنتين. ونفضت غبار هذا السخف عن أرداني فلم أكن تاجر ألقاب أو عاشق نفوذ، إنما كنت أعيش للحقيقة العلمية وأترك ما وراء ذلك حتى رزق أولادي لله وكنت بذلك سعيداً راضياً”.

يوضح، “لم أكن أهتم بالألقاب ولا بما يترتب عليها فحوربت في طريقي إلى الدكتوراه 14 سنة، وأنا الأول المعترف بامتيازه في سني دراستي كلها، وأسبق زملائي إلى الحصول على الماجستير في بحث كان موضع فخر الجامعة ومن فيها وهو مطبوع بين أيدي الناس يمكن موازنته بأي أثر خرج من الجامعة للدكتوراه فضلاً عن الماجستير”.

يتابع، “ووضعت هذه الحرب الشخصية دبر أذني ومضيت في طريقي أستوفي البحث وأوسع دائرته ومداه وخطره، وأنتظر في غير ملل الثغرة حين تسنح في السور المسدود الذي رفع في وجهي طوال تلك السنين بالحيلة الوغدة والتدبير الخبيث. ولما عنت نفذت منها بكتاب (تاريخ الشعر) في سنة 1950”.

يشير في موضع آخر إلى أن “طه حسين تراجع عن هذه الانحرافات وارتد عنها إلى غير رجعه، وراح في آخر أيامه يؤيده الرأي”. بما أثبته البهبيتي وغيره بالطبع.

بعدها ابتعدت أيضاً معركة المستشرقين عن مجال “الدراسات الأدبية الصرفة للنص العربي شعره ونثره لأن التذوق الموروث فيها هو الأصل، ولأن الإدراك العميق لمرامي النص رهن بالقدر الراسب في النفس من متخلفات التسلسل عبر الأجيال من مدارات معاني ألفاظه في الجنس الذي خلق لغته، ودرج على تنميتها مع درجات نموه ونمو حضارته، لتنتقل قضايا الشك إلى مضمار آخر، بينها عمر اللغة العربية، وقدم اللغة والشعر والتاريخ والحضارة العربية، وهو ما ناقشه البهبيتي بمنهج تاريخي واستدلالي وقدم منجزه هذا عبر كتابه “تاريخ الشعر”. وتطرق إليه أيضاً في المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين” الذي مر علينا هنا.