“لم أقل ذلك. هل سنحصل على برنامج حواريّ أم على محادثة جدّيّة؟”

بالتأكيد، تمنّى الإعلاميّ تاكر كارلسون انطلاقة أكثر سلاسة، وربّما أقلّ إحراجاً،لمقابلته مع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. بادر كارلسون إلى طرح السؤال التالي على مضيفه:

“في 22 شباط (فبراير) 2022، توجّهتَ إلى بلادك بخطاب وطنيّ حين بدأ النزاع في أوكرانيا (هو بدأ في 24 شباط) وقلتَ إنّك كنتَ تتحرّك لأنّك توصّلتَ إلى استنتاج بأنّ الولايات المتّحدة عبر الناتو قد تُطلق وأقتبس ‘هجوماً مفاجئاً على بلادنا‘. وبالنسبة إلى آذان أميركيّة هذا يبدو جنونَ ارتياب. أخبِرْنا لماذا تؤمن بأنّ الولايات المتحدة قد تضرب روسيا بلا إنذار. كيف استنتجتَ ذلك”.

ضحكة تغطّي الصّدمة

استدعى هذا السؤال ردّاً قاسياً نسبيّاً من بوتين الذي لمّح إلى أنّه لن يجري حواراً سياسيّاً عاديّاً قد يكون أقرب إلى تسلية الجمهور. ربّما تكون عبارة “جنون الارتياب” هي ما استفزّ الرئيس الروسيّ أو الحديث عن الـ”هجوم المفاجئ على بلادنا”. بدا كارلسون مصدوماً، لكنّه غطّى صدمته بضحكة غريبة مبالغ بها، قبل أن يحاول الاستشهاد بمصدر الاقتباس. غير أنّ بوتين قاطعه. إنّ أحدالخطابين  اللذين ألقاهما الرئيس الروسيّ في 21 و٢٤ شباط  لمّح إلى استنتاج باحتمال حدوث “هجوم مفاجئ” من دون أن يؤكّد ذلك حرفيّاً.

ربّما قصد كارلسون إشارة بوتين في ٢١ شباط  إلى أنّ “وثائق التخطيط الاستراتيجيّ الأميركيّة تؤكّد احتمال ما يسمّى الضربة الوقائيّة على أنظمة صواريخ العدوّ”. لكنّ مشكلة كارلسون أنّ ما قاله لم يمثّل “هفوته” الأولى بالنسبة إلى الكرملين. خلال إعلانه عبدر فيديو سلسلة من الأسباب التي دفعته إلى مقابلة الرئيس الروسيّ، انتقد كارلسون الإعلاميّين الغربيّين لأنّه “لم يكلّف أيّ صحافيّ غربيّ عناء إجراء مقابلة مع رئيس الدولة الأخرى المتورّطة في هذا النزاع، فلاديمير بوتين”.رد الناطق  باسم الكرملين دميتري بيسكوف على هذه المزاعم قائلاً إنّ “السيّد كارلسون غير مصيب، لكن لم يكن بإمكانه معرفة ذلك. نحصل على العديد من الطلبات لإجراء مقابلات مع الرئيس”.

كان على كارلسون إدراك أنّ الكلام عن عدم الاهتمام بمقابلة أيّ رئيس لا يخدم اللياقات الإعلاميّة حتى ولو كان ذلك صحيحاً، علماً أنّ الأمر، في حالة الرئيس الروسيّ، غير صحيح. أكّد عدد من الإعلاميّين الغربيّين، وفي طليعتهمن امانيور “سي أن أن”، سعيَهم إلى إجراء مقابلة كهذه منذ انطلاق الحرب.

نجوميّة حارقة

يعدّ كارلسون “نجماً” إعلاميّاً بارزاً بين المحافظين الأميركيّين، إن لم يكن “نجم النجوم”. وسئل في الماضي عمّا إذا كان يودّ الترشّح إلى الرئاسة في مرحلة مستقبليّة، ونفى ذلك ب شكل ملتبس . لكنّ “النجوميّة” يمكن أن تحرق أصحابها. ذهب كارلسون إلى روسيا وفي ذهنه الترويج للسياسات الروسيّة ولوقف الدعم الأميركيّ لأوكرانيا.

حتى قبل الحرب، كان موقف الرجل واضحاً: يجب على أميركا الدفاع عن روسيا في حال خيرت  بين دعم أيّ طرفي النزاع. لكنّ حماسة كارلسون الإعلاميّة جعلته ينسى أنّ الرئيس الروسيّ هو من يرسم إطار المقابلة ومسارها وموضوع الحديث وتوقيته.

من المرجّح أن يكون الإعلاميّ قد أراد سماع بوتين وهو يشنّ هجوماً على “أعداء” كارلسون وجمهوره: “المؤسّسة”، “النّخب”، “الناتو” (حلف شمال الأطلسيّ)، “العولميّين”، “الغرب المتآكل” وغيرها من عبارات اليمين الجديد. لكنّ كارلسون تفاجأ من رغبة الرئيس الروسيّ بالحديث طويلاً عن تاريخ روسيا منذ القرن التاسع. أمضى بوتين نصف ساعة تقريباً وهو يتحدّث عن التاريخ المعقّد بين روسيا وأوكرانيا. وكلّما حاول كارلسون حثّ بوتين ليتناول الأحداث الحاليّة، ذكّره بوتين بأنّه يريد إكمال فكرته.

لم يقرأ كتابات بوتين

“لستُ واثقاً لماذا الأمر على صلة بما حدث منذ عامين”، سأل كارلسون في إحدى المرّات، قبل أن يعطيه الرئيس الروسيّ وثائق من الأرشيف لتأكيد كلامه. وحين سأله عن سبب انتظاره 24 عاماً لاستعادة “أراضيه” طالما أنّ روسيا تملك أسلحة نوويّة، أعاده بوتين مجدّداً إلى الحرب العالميّة الثانية.

ببساطة، لم يفهم كارلسون الرئيس الروسيّ ولم يستعدّ كما ينبغي للمقابلة. بالمقابل، كان بوتين يدرك أنّ كارلسون درس التاريخ وأنّ وكالة الاستخبارات المركزيّة “سي أي آي”، قد رفضت طلبه الانضمام إليها في مرحلة سابقة. بوتين أدرك أموراً عن ضيفه أكثر من العكس. وهنا مجدّداً، يبدو أنّ بوتين سخر بشكل ضمنيّ منه. “يجب أن نشكر الله لأنّها (سي آي أي) لم تقبل بك. مع أنّها، مؤسّسة جدّيّة”، قال بوتين لكارلسون.

يمكن افتراض أنّ جمهور كارلسون لم يكن ينتظر سماع الكثير عن حكم الأمير روريك أو فلاديمير الأوّل أو ياروسلاف الحكيم. لم يقرأ كارلسون عن التاريخ ، ليتوقّع ما سيكون بانتظاره في الكرملين. وعلى أيّ حال، لا يُعرف عن الشعبويّين عموماً حبّ كبير للاطّلاع. بهذا المعنى، تصرّف كارلسون كأنّه ذاهب لمقابلة أحد ناشطي جمهوريّي “ماغا” على وسائل التواصل الاجتماعيّ. من هنا يمكن فهم طلب بوتين أن تكون المقابلة “جدّيّة” وفهم الانتقادات الخفيّة الأخرى.

رفض الانجرار إلى طريقة تعبيره

نادراً ما ردّ كارلسون على بوتين في قضايا حسّاسة، باستثناء قضيّة اعتقال روسيا لمراسل “وول ستريت جورنال” بتهمة “التجسّس”. كانت هذه المسألة الوحيدة التي ألحّ فيها كارلسون على الرئيس الروسيّ للإفراج عنه، لكنّ بوتين قال إنّ قضايا التجسّس خطيرة بالرغم من أنّه ترك الباب مفتوحاً لحلّ مستقبليّ. وتنفي “وول ستريت جورنال” ضلوع مراسلها بنشاط من هذا النوع. القضيّة الأخرى التي استفهم الإعلاميّ عنها هي ما إذا كان الرئيس الروسيّ يعتقد أنّ من حقّ المجر استعادة أراضٍ أوكرانيّة كانت لها قبل سنة 1654 كما قال بوتين. ردّ الأخير بأنّ المطالبة بتلك الأراضي أمر “مفهوم على الأقلّ” وإن “لم يكن لديها الحقّ بذلك”.

حتى في قضايا الحرب الدائرة حاليّاً، يمكن افتراض أنّ إجابات بوتين لم تكن على قدر توقّعات كارلسون. أوحى الإعلاميّ من خلال أسئلته بأنّ أوكرانيا أصبحت مجرّد تابع للولايات المتّحدة، بالتالي، يمكن للإدارة التفاوض بالنيابة عنها. “هل تعتقد أنّ لزيلينسكي حرّية التفاوض حول تسوية لهذا النزاع؟”، سأل كارلسون. أجاب بوتين: “لا أعرف التفاصيل، بالطبع من الصعب عليّ أن أحكم، لكن أعتقد أنّه كان، في جميع الأحوال، قد تمتّع (بتلك الحرّيّة)”. في موضع آخر، وردّاً على السؤال المكرّر، “افترضَ” بوتين أنّ وقف أوكرانيا المفاوضات تمّ بـ”توجيهٍ” من واشنطن.

وفي انتقاده للولايات المتّحدة، لم يذهب بوتين بعيداً. لم يشر إلى أفول الولايات المتحدة في القريب، وهو ما يحبّ مؤيّدو ترامب التهويل به. قال الرئيس الروسيّ إنّ واشنطن لا تزال تحتفظ بمعدّل نموّ مقبول هو 2.5 في المئة لكنّ الخطر سيأتي في المستقبل بحسب رأيه. أسمعَ بوتين ضيفه بعض العبارات التي يحبّها مثل أنّ “مؤسّستكَ السياسيّة” لا تفهم أنّ العالم يتغيّر وأنّ “النّخب” الأميركيّة تمنع تحسّن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. ومع أنّ كارلسون دفع الرئيس الروسيّ أكثر إلى الحديث عن الأمور الداخليّة في واشنطن عبر سؤاله عن “مراكز القوى” في العاصمة الأميركيّة وعن رأيه في “من يتّخذ فعليّاً القرارات”، رفض الإجابة بشكل مباشر، قائلاً إنّ الوضع في الولايات المتّحدة “معقّد”. مجدّداً، التزم بوتين بالأصول الإعلاميّة أكثر من ضيفه.

كارلسون والدرس الصعب

في جميع الأحوال، ذكر الرئيس الروسيّ تفاصيل كثيرة كان واضحاً أنّ كارلسون لم يكن راغباً أو حتى مطّلعاً عليها للردّ بفكرة مقابلة. حين سأل بوتين عمّا إذا كان بإمكانه تخيّل سيناريو ترسل موسكو بموجبه قوّاتها إلى بولندا، قال بوتين إنّ الأمر لا يحتاج إلى محلّل سياسيّ كي يدرك أنّ الجواب هو لا وإنّ روسيا ستفعل ذلك فقط في حال اعتدت بولندا عليها. لكنّ بوتين ننفى  بعد مهاجمة جورجيا، أن تكون لديه أيّ نيّة للتحرّك ضدّ شبه جزيرة القرم. وفي 2014، وبعد ضمّ شبه جزيرة القرم،قالت موسكو إنّها لا تنوي اجتياح أراضٍ أوكرانيّة أخرى. ولم يستوضح كارلسون بوتين عمّا قصده حين قال إنّ البولنديّين “دفعوا” هتلر لإطلاق الحرب العالميّة الثانية عبر غزوهم، بعدما رفضوا التنازل عن ممرّ دانتزيغ لمصلحته.

حتى مع وضع كلّ التاريخ جانباً، حين قال بوتين إنّه بمجرّد قطع واشنطن دعمها لأوكرانيا ستتوقف الحرب في غضون “بضعة أسابيع”، لم يردّ كارلسون بنقل وجهة النظر البديهيّة التي تقول إنّ الحرب ستتوقّف فعلاً لأنّ أوكرانيا ستخسرها على الأرجح وستتوقّف عن الوجود كدولة مستقلّة.

في نهاية المطاف، حقّق بوتين من المقابلة ما يريد إذ اوضح للغرب كما للداخل الروسيّ أنّ الغرب “رمش” أوّلاً وبأنّه غير معزول. من جهته، حقّق كارلسون ما أراد عبر إغضاب جزء واسع من الديموقراطيّين والمسؤولين في واشنطن كما أعاد تسليط الأضواء عليه.

لكنّه اصطدم بحقيقة فجّة مفادها أنّ تقاسمه بعض الرؤى حول العالم مع الرئيس الروسيّ لا يعني أنّه قادر على إدارة دفّة الحوار كما يشاء، ولا يعني أيضاً أنّه سيسلم من سخرية بوتين عندما يوفّر له الذريعة. ربّما سعى كارلسون إلى تحقيق طموح سياسيّ مستقبليّ عبر قيادته المحافظين الأميركيّين للتحالف مع الكرملين. إن دلّت المقابلة على شيء فهو أنّ بوتين ليس سخيّاً مع هكذا مساعٍ.