بعدما كانت التوقعات تشير إلى أن المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين سيستأنف مساعيه لتهدئة الوضع على جبهة جنوب لبنان، من خلال استكمال مشاوراته في إسرائيل ولبنان، لم تظهر أي من مؤشرات إمكان إنهاء المواجهات بين الاحتلال و”حزب الله”، ولا حتى الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة. لم يأت هوكشتاين وهو الذي كان سيحاول الاستفادة من هدنة غزة التي لا يزال الجدل حولها مستمراً مع إصرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على إطالة أمد الحرب والإبادة في غزة ونقل المعركة إلى رفح، واستمرار الحرب على لبنان.
لم يأت هوكشتاين، وهو أمر يشير إلى تباينات أو خلافات أميركية – إسرائيلية، غير أن بيروت شهدت زيارة جديدة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وهي الثالثة له للبنان منذ بدء حرب غزة، لتفتح البحث حول الأوراق المتداولة في ما يتعلق بالمرحلة المقبلة من المواجهة بين “حزب الله” وإسرائيل، إذا لم تشمل الهدنة جبهة جنوب لبنان، وأيضاً النقاش في ما يطرحه الموفدون الدوليون حول تسوية للوضع الحدودي وتطبيق القرار 1701 بما في ذلك سحب قوات “حزب الله” لمسافة 10 كيلومترات عن خط الجبهة، وهو ما يرفضه محور المقاومة الذي يلتقي عبد اللهيان بأركانه عند كل زيارة لبيروت.
تأتي زيارة عبد اللهيان وسط تصعيد إسرائيلي في جبهة جنوب لبنان ورفض الاحتلال بشمولها أي هدنة محتملة في غزة، وفي الوقت نفسه إصرار الأميركيين على استهداف أذرع إيران في سوريا والعراق واليمن، وآخرها اغتيال أحد قادة “حزب الله” العراقي في بغداد، وذلك رداً على الهجوم الذي استهدف قاعدة أميركية في الأردن. ويلاحظ في هذا الخصوص أن التصعيد الأميركي لا يشمل لبنان بل تصر الإدارة الأميركية على تهدئة جبهته، والتوصل إلى تسوية حدودية بين لبنان وإسرائيل بخلاف الساحات الأخرى، وهو ما يزيد من اعتبار الحزب لدى إيران في ساحة تعتبر خطاً أحمر لها، ويدفع “حزب الله” إلى التسلح برهانات تبدأ بعدم قدرة إسرائيل على شن حرب على لبنان وأيضاً على عجز الولايات المتحدة عن تغطيتها، علماً أن الضربات الأميركية في ساحات المنطقة توفر الذرائع لإسرائيل لتوريط واشنطن ورفض التفاوض مع “حزب الله” الذي تعتبره الولايات المتحدة أحد أهم أذرع إيران في المنطقة.
ليس من مصلحة لبنان رفض التفاوض غير المباشر الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، أقله لقطع الطريق على محاولات إسرائيل جر البلد إلى حرب واسعة. فالمخاوف من حرب تشنها إسرائيل ضد لبنان لإعادة ترتيب جبهتها الشمالية وإعادة المستوطنين، ترتفع وسط التهديدات المستمرة. فالوضع اليوم يختلف عن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل التي تولاها هوكشتاين نفسه، إذ إن “حزب الله” اليوم يعتبر نفسه أنه المقرر في السياسة والميدان. وعلى الرغم من الضغوط الأميركية على إسرائيل والتحذيرات من تصعيدها الحرب على لبنان لاعتبارات لها علاقة بأولوياتها في المنطقة، وفي الوقت ذاته طمأنة إسرائيل بالعمل على ترتيبات أمنية تبعد “حزب الله” من الحدود، فإن عدم تثبيت وقف إطلاق النار في غزة وبدء مفاوضات سياسية والبحث بحل سياسي، سيبقي جبهة لبنان مرشحة لكل الاحتمالات، وبالتالي قد يؤدي استمرار التصعيد الإسرائيلي مع تشدد بنيامين نتنياهو ورفضه لأي حلول إلى استدراج واشنطن لحرب في المنطقة كلها. لكن الثابت أن مساعي التهدئة والتحذيرات إلى “حزب الله”، تعني أن لا مقايضة دولية، خصوصاً أميركية معه في ما يتعلق بكل الملفات اللبنانية.
وفي وقت يرفض “حزب الله” التفاوض حول وجوده العسكري في المنطقة الحدودية، فإنه أيضاً مرتبك في ما يتعلق باستمرار المواجهة في حال الهدنة، خصوصاً أن المفاوضات حول غزة تستبعد الإيرانيين ولا تمنحهم أي دور في ذلك. وأمام التهديدات الإسرائيلية، يبدو أنه سيحاول التبرير لجمهوره عما حققه بإشعال جبهة الجنوب، فيما سيركز على استمرار العمليات في منطقة محددة في الجنوب لا يُستبعد أن تكون مزارع شبعا بوصفها منطقة محتلة وتختلف عن حدود الخط الأزرق.
التباينات بين الإدارة الأميركية وإسرائيل حول غزة، بمعزل عن الدعم الذي مُنح للاحتلال في حربه، هي حول مساراتها وطرقها وأهدافها. وهذه الخلافات تبرز جلية حيال جبهة جنوب لبنان، خصوصاً مع الضغوط الأميركية التي منعت أكثر من مرة شن حرب واسعة على لبنان و”حزب الله”.
وعلى الرغم من التباينات حيال لبنان، وهي تختلف عن غزة، فإن ذلك لا يعني أن واشنطن بصدد منح “حزب الله” انتصاراً سياسياً في لبنان وفي المواجهة مع إسرائيل. ذلك أن المساعي الأميركية والدولية للتهدئة ولحل الوضع في البلد وتجنب الحرب لا تعني إخراج إسرائيل منهزمة على الجبهة اللبنانية، بل هي مرتبطة بوضع المنطقة كلها، وإن كان نتنياهو يريد تحقيق إنجاز في جنوب لبنان. وقد ظهر هذا الأمر واضحاً بالمبادرات المطروحة لحل الوضع على الجبهة الجنوبية، وذلك بالإصرار على تطبيق القرار 1701، وانتشار الجيش اللبناني وسحب السلاح الثقيل لـ”حزب الله” إلى شمال الليطاني وإبعاد قوات النخبة، ما دامت الطروحات الأولى قد فشلت في إبعاد الحزب وإنشاء منطقة عازلة في الجنوب. وإذا كانت إسرائيل ترفض حتى الآن كل الطروحات، فهذا يعني أنها لا تريد عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والأهم بالنسبة لها عدم تكرار عملية طوفان الأقصى من جنوب لبنان، علماً أن “حزب الله” ليس بوارد ذلك، ولا يبدو أنه يريد حرباً واسعة كان يمكن أن تنشب بعد هجوم حماس، فأبقى جنوب لبنان جبهة مساندة لغزة.
أيضاً لا تعني مفاوضة القوى الدولية لـ”حزب الله” واهتمامها بفصل جبهة الجنوب عن غزة، أنها تشكل انتصاراً للحزب، وهذا وهم وقصر نظر في السياسة، وذلك على الرغم من تسجيل الحزب نقاطاً تحسب له في المواجهة، إلا أنها لا تُصرف في تحقيق إنجازات لمصلحة لبنان بل للطرف الإقليمي التابع له أي إيران. وفي المقابل، لم يتمكن الحزب من استثمار مساندته لحماس بأن يكون مع طهران الطرف الذي يحدد مسار المفاوضات في غزة، وإن كان يحاول أن يثبت أن التهديدات الإسرائيلية ضده هي حبر على ورق، وهو قادر على صد أي هجوم والتحرك وتنفيذ الضربات وتهديد سكان المستوطنات الشمالية، لكنه يدفع كلفة بشرية كبيرة، في الوقت الذي تشير فيه المعطيات إلى الخطر الذي يهدد لبنان من حرب واسعة.
يُفهم من زيارات عبد اللهيان، محاولات تأكيد الدور الإيراني في التفاوض والهدن والتسويات المحتملة للحرب، وأيضاً يُستنتج من زيارات الموفدين الدوليين للبنان أنها محاولة لتجنب التصعيد، وإن كانت تنقل بعض الرسائل التحذيرية للبنان، لكن الأساس يبقى عند الأميركيين حين توضع كل المبادرات في سلتهم. وعلى هذا يبدو أن كلمة الفصل أميركية بامتياز، في انتظار وساطتها لما ستؤول إليه الأوضاع واحتمالات الحرب. فلبنان ليس محيداً عن وحدة الجبهات أو إمكان تحوله إلى ساحة استهدافات، بعيداً من خطابات النصر وشعارات حماية البلد. وإلى حين التوصل إلى حل، يبدو أن إسرائيل تواصل حربها المتغيرة على لبنان، العسكرية والأمنية، وإبقاء الجبهة مشتعلة، وهذا ينذر بأخطار كبيرة في المرحلة المقبلة.
Twitter: @ihaidar62