…………..
عيد النيروز وحق تقرير المصير
قرر رفاقنا الكرد الاحتفال بعيد النيروز. قبل حوالي ثلاثة شهور من الموعد بدأت الاستعدادات وجرت التنقلات. كل فرد من الفرقة سينتقل من مهجعه، ليجتمع جميع أعضائها في مهجع واحد من أجل التدريبات. وافق يومها رفاق المهجع السادس أن يتشتتوا بعد تقديم المهجع لفرقة الفنون الكردية المُحدَثة. في تلك الفترة انطلقت طرفة في الجناح تؤكد أن انتقال رفاقنا إلى مهجع واحد لم يكن من أجل التدريب، وإنما كان في سياق مطالبتهم بحق تقرير المصير للشعب الكردي.
حسين كامل (طالب معهد تجاري) كان عازفاً ماهراً على الطنبور، الآلة الوترية الكردية الشهيرة. أحمد صالح حسن (لقبهُ في السجن كالو) كان يعزف العود، وسوف يرافقهم على الإيقاع (وعاء بلاستيكي كبير) خالد حيدر (طالب طب أسنان، جامعة حلب). قام كمال حمو (طالب رياضيات، جامعة حلب) بمساعدة جوان يوسف (طالب هندسة ميكانيك، جامعة حلب) وسراج كلش (طالب في كلية فارونج للصحافة، روسيا الاتحادية) بتدريب مجموعة من الشباب على الرقص (في العرض سيكونون شباناً وفتيات). صُمِّمَت اللوحة الأهم من ذاكرة المدربين (كانوا شاركوا في القامشلي قبل السجن مع الفرق الكردية المحلية)، ودُمِجت في هذه اللوحة ثلاث دبكات كردية شهيرة: «كفوكي»، «از تازما» و«جوخو». كما تم تقديم عدة رقصات أخرى كانت تنويعات على الرقصات الفولكلورية الكردية المعروفة: «الكرمانجية»، «الباكية»، «شيخاني» ورقصة «هورزي». ومن ابتكار الصديق ابراهيم زورو (معلم مدرسة) قدموا رقصة اخترعها بنفسه كانت ضاحكة وهزلية بحركاتها، مع أغنية كردية فولكلورية هي (لو بِشّو/ قطة جميلة).
مع انفعالات الحفل والعزف، سيعلّق أحد الأصدقاء على شاربي حسين كامل الكثّين حين يندمج في عزف الطنبور: «حسين يعزف جالساً، لكن شاربه يرقص مع الفرقة». وسيروي كمال حمو معاناته مع المتدربين بطرافة، وكيف كان يحرك لهم أرجلهم بيديه بمختلف الاتجاهات كي يتقنوا الحركات أثناء التدريب، وقد أتقنوها حقاً، كما بدا في الحفل.
أقيم الحفل في فسحة نهاية الجناح، وكان مبهراً حقاً ولا يُنسى. جميع أفراد الفرقة يرتدون الزي الكردي التقليدي الرجالي والنسائي مع أغطية الرأس. كان لافتاً للجميع المهارة في أداء الرقصات، وبشكل خاص أبهرَ طالب الصحافة سراج كلش بأدائه الاستثنائي الجمهورَ الكبير الذي اجتمع من الجناحين اليمين واليسار (حينها لم تكن الجدران قد بُنيت بعد لفصل الجناحين). تم تفصيل ملابس الفرقة من أغلفة الفرشات العسكرية، التي ساعد لونها «الخاكي» القريب من الزي الكردي التقليدي على تسهيل المهمة. قام بتفصيل ملابس الفرقة سجين كردي قديم كنا ندعوه أبو حسن عنتر. يومها نفدت الخيطان من الجناح، فاضطروا لاستخدام خيوط النايلون التي سحبوها من أكياس البصل، حقاً كان ما فعلوه جهداً استثنائياً. فيما بعد سيخبرني عضو الفرقة رشاد عبد القادر (اعتقل طالباً في الثانوية) الذي تعلَّمَ عزفَ الطنبور في السجن: «كنت أرى الطنبور قبل السجن أداة موجودة في معظم البيوت الكردية لمرافقة الأغاني، هنا مع المقامات والصولفيج والنوتة والإيقاعات والتدريب سيتحوّل الطنبور بالنسبة لي إلى آلة موسيقية».
الإخوان المسلمون و«محيو» وأهازيج عيد الأم
استمر حفل النيروز إلى ما قبل موعد إغلاق أبواب المهاجع. فجأة بدأت التحذيرات تصل «جاء محيو… جاء محيو»، ومحيو هو اسم (الدلع) لمدير السجن المقدم محي الدين محمد. كان صوت الموسيقى والدبكات قد وصل إلى مكاتب الإدارة. سيبدأ محيو كلامه مع رئيس الجناح بسؤالٍ استنكاري، سيتحول إلى مَثَلٍ ما زال أصدقاء صيدنايا يستخدمونه حتى اليوم: «شو هالأهازيج والمنيـ…ات؟». كان على رئيس الجناح أن يجيبه فوراً أن الشباب يحتفلون بعيد الأم، فمجرد ذكر كلمة نيروز كان على الأغلب سيودي بجميع الرفاق الكرد إلى الزنازين فوراً. صدمةُ الجواب بأن سجناءً دون زيارات يحتفلون بعيد أمهاتً بعيدات خفَّفَت إلى حدٍّ ما من هياج محيو المحاط بالعديد من عناصر الشرطة، ومع ذلك استمرَّ بالهجوم مبرراً أنه حتى من هم خارج السجن لا يحتفلون مثلنا، وسوف يأتيه الجواب الذي جعله ينسحب دون عقوبات على غير العادة، لكن مع توصيات شديدة بعدم إصدار أي صوت: «اللي برا السجن أمهاتهم جنبهم، نحنا هون بلا أمهات».
كان معتقلو الإخوان المسلمين يسكنون الجهة اليمنى من الجناح يومها، وكان هنالك دائماً هذا الفارق بيننا وبينهم حول الحلال والحرام، وبطبيعة الحال الموسيقى هي واحدة من المحرمات. طبعاً كان الأمر متفاوتاً بينهم، فهناك المتشدد كما المعتدل تجاه هذا النوع من المحرمات. حفل النيروز ليَّنَ أفكار معظم جيراننا في الجناح ليتحولوا إلى الاعتدال، فأقبلوا ليشاهدوا الحفل.
بعد أن مضى محيو، وكان حفل النيروز قد انتهى، سوف يغني أبو المؤمل بمرافقة عود حسان عبد الرحمن. كان أبو المؤمل محمد حمدان الصالح (معلم مدرسة)، وهو من مدينة الرقة، يمتلك صوتاً عذباً، إضافة لحفظه التراث الفراتي والغناء العراقي القريب من مدينته. كان ضوء النهار قد بدأ يخفت عندما بدأ أبو المؤمل لمناسبة عيد الأم بأغنية المطرب العراقي سعدون جابر «يا أمي يا أم الوفا». لم يكد صديقنا ينهي المقطع الأول من الأغنية، حتى كانت الدموع تسيل على خدود معظم جمهور الإخوان المسلمين. كانوا شباناً صغاراً، بل وأطفالاً في كثيرٍ من الحالات، عندما غادروا أمهاتهم قبل حوالي العشر سنوات. دون زيارات لا في سجن تدمر، ولا حتى هنا بعد أن تم نقلهم إلى صيدنايا.