ملخص
تدور أحداث رواية “الليلة الكبيرة” للروائي المصري محمد الفولي داخل حي شعبي عشوائي في ليلة واحدة استثنائية تهبط فيها مركبة فضائية تعزل الحي عن العالم، وبدلاً من التفاعل الجاد مع هذا الحدث الكوني يغرق السكان في صراعاتهم الشخصية والهامشية، فتتحول الليلة إلى مسرح عبثي يجمع بين التراجيديا والكوميديا.
يحيل عنوان رواية “الليلة الكبيرة” (دار دون) لمحمد الفولي إلى الأوبريت الشهير الذي ألفه صلاح جاهين ولحنه سيد مكاوي عام 1961، والذي يعد من أبرز الأعمال الفنية الشعبية في الذاكرة المصرية، كما يستخدم العنوان للإشارة إلى الليلة الأخيرة في موالد الأولياء في مصر والتي تتوافد خلالها الحشود من كل صوب، وتشهد حلقات الذكر والإنشاد الصوفي والعروض الشعبية والمواكب، ومنها أخذ المعنى الشعبي المتداول في العامية المصرية في الإشارة إلى الحدث الاستثنائي والضخم. ومن هذا المعنى استلهم الفولي عنوان روايته الذي يتماشى مع مجريات أحداثها التي تدور في ليلة واحدة داخل حي شعبي، ليلة استثنائية تهبط فيها بصورة مفاجئة مركبة فضائية تضيء الحي بلون أزرق وتقطع اتصاله بالعالم الخارجي، في إطار مهمة استكشافية لكوكب الأرض.
عالم الفتوات
تمضي الأحداث في إحدى العشوائيات التي نشأت حول المدن المصرية بفعل موجات النزوح الريفي حتى خنقت بامتدادها المناطق التي كانت يوماً ما معاقل للأرستقراطية، فنمت خارج التخطيط الرسمي وكونت قوانينها الخاصة وزعاماتها، وتقوم العلاقات فيها على منطق القوة بل وفرضت رؤيتها وعاداتها وتقاليدها على المدينة فيما يعرف بظاهرة “ترييف المدن”.
الرواية الواقعية (دار دوِّن)
في هذا العالم تعود صورة “الفتوة” للواجهة ولكن بصيغة معاصرة تختلف عن تلك التي صورها نجيب محفوظ، فتقسم الحارات إلى مناطق لكل منها بلطجي يفرض سلطانه على سكانها ويأخذ منهم الإتاوات، ويلتزم زعيم كل منطقة باحترام حدود المناطق الأخرى التي تقع تحت سيطرة بلطجية آخرين، كما أن لكل بلطجي أتباعه الذين ينفذون أوامره في نظام يشبه شبكات السلطة الموازية، ينبض بروح الحياة الشعبية بكل ما تحمله من تعقيد وفوضى.
تقدم رواية “أرض الموقف” في صورة كوميديا سوداء، أو كما يسميها المؤلف في مستهل الرواية “تراجيكو-ميديا”، في عمل درامي يجمع بين ملامح الكوميديا والمأساة، فنحن أمام نص كتب بلغة تهكمية لكنه يكشف في عمقه عن واقع بالغ القسوة والعبث، فعلى خلاف ما اعتدنا رؤيته في الأفلام الأجنبية التي تتناول ظواهر مشابهة حيث تتحرك مؤسسات الدولة سريعاً وتعقد اجتماعات طارئة لقادة الأجهزة وتطرح خططاً للحلول، تسير الأمور في “الليلة الكبيرة” على نحو مغاير، إذ يوكل أمر مواجهة الكارثة إلى مجلس شعبي مصغر يتزعمه المعلم خشبة الحطاب، بلطجي المنطقة، ومعه معاونوه علاء بوكس ورمضان هتلر وسافوريا، بعدما تنصل المسؤول الأمني من المشهد طالما أنه لا يتعلق بجماعات دينية متطرفة.
وفي مواجهة الطبق الطائر يلجأ هذا المجلس إلى السلاح الوحيد المتاح لديهم وهو زجاجات المولوتوف، في مفارقة ساخرة تكشف الفجوة الهائلة بين عالم الأرض وعالم الفضاء، وبين منطق الشارع ومنطق الدولة الغائب، وحين تتدخل الدولة أخيراً يكون التدخل على طريقتها المعتادة، قصف جوي ومدفعي لا يعبأ بالبشر، ليظهر الإعلام في المشهد ويطالب الناس بالاصطفاف خلف الدولة ويشيطن من ينتقدون تصرفها المتهور ويصفهم بالخونة والعملاء، لأن هذا التدخل كان ضرورياً من أجمل حماية سيادة الدولة.
عبثية المشهد
thumbnail_الروائي محمد الفولي.jpg
الروائي محمد الفولي (صفحة الكاتب – فيسبوك)
تتواصل عبثية المشهد حين نكتشف أن سكان “أرض الموقف”، وسط هذا الحدث الجلل، منشغلون بقضاياهم الصغيرة والهامشية التي لا تمت بصلة إلى حجم الكارثة، فدافع علاء بوكس لإبلاغ معلمه بأمر الطبق الطائر هو رغبته في تحصيل “الكرتة” أو الإتاوة من الزائر الغريب، إذ لا يسمح لأحد بدخول المنطقة دون دفع المعلوم، أما زوجته سماح فلم يشغلها من الحدث سوى تعطيل ليلة الأنس التي كانت تنتظرها، بينما الشاب الحازم منشغل بلعن المترجم الذي صحح له مقطعاً من رواية يصف فيه مشهداً جنسياً، وفي خضم هذا التوتر يغتنم طاهر الحلاق انشغال أهل الحارة بما يجري ليصعد إلى شقة سماح للتحرش بها، معتبراً “ألا وقت أنسب من هذه الليلة، الليلة الكبيرة، لتحقيق هذا الهدف” (ص:151) لتكشف الرواية بأسلوب ساخر انفصال الشخصيات التام عن الواقع وانغماسها في شهواتها ومصالحها الضيقة، في مفارقة تعزز الطابع التراجيكوميدي للعمل.
وتستعين الرواية براو عليم لا يكتفي بدوره التقليدي في السرد بل يكسر “الجدار الرابع” على الطريقة البريختية في المسرح، موجهاً خطابه إلى القارئ بصورة مباشرة ليظهر كصوت حاضر يعلق ويشرح، ويهدم توقعات المتلقي باستمرار في محاولة واعية لكسر الأفق المعتاد للفهم والتلقي، ويصرح داخل النص بطبيعته هذه فيقول “هذا ليس عملاً أدبياً وهذه ليست رواية، وإنما قولوا حكاية أو حدوتة أَسرد فيها لكم ما حدث في هذه الليلة الغبراء، ولهذا فإنها لا تلتزم بمعايير التحرير الروائي ولا الشكل الأدبي، أعذروني أيضاً على قلة أدبي” (ص:84) ليقدم بذلك رؤية سردية تقوم على التهكم من الشكل الروائي الكلاسيكي.
روح متمردة
تنبض الرواية بروح متمردة تسعى إلى كسر الأطر السائدة، ليس فقط على مستوى الشكل السردي بل أيضاً على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر، وتظهر هذه النزعة الثورية في اللغة بصورة واضحة، إذ توجه الرواية نقداً إلى ما يعرف بـ “اللغة المعيارية” التي يراها الكاتب لغة ميتة تستخدم في الكتابة والإعلام بدافع التباهي، على رغم أن كثراً لا يجيدونها، فتظهر سخرية الفولي من هذه اللغة من الإهداء “إلى محبي اللغة الرصينة”، ليؤسس منذ البداية لنبرة تهكمية تحطم التوقعات، وعلى امتداد الرواية يستخدم لغة شعبية مملوءة بالسباب والتعابير الفاحشة كما تتداول في الشارع، متعمداً استفزاز الذائقة المحافظة، بل ويذهب أبعد من ذلك حين يتهكم على عناصر الفصحى ذاتها، معتبراً بعض أدواتها اللغوية مثل “كان” و “قد” و “لقد” مجرد زوائد يمكن الاستغناء عنها من دون الإخلال بالمعنى.
غير أن هذا الطرح وعلى رغم جرأته، ليس بالبساطة التي تروج له الرواية، بخاصة إذا ما قورن بالقاعدة اللغوية المعروفة، زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أما مسألة الفصحى والعامية والمعيارية والشعبية فقد جرت فيها مداد كثيرة ناقشتها بأبعادها المختلفة، ولا مجال للخوض فيها هنا.
“غير مرئية” رواية تتأرجح بين السرد والتأمل فيه
المرأة الروبوت تخون زوجها المتهتك في رواية “آني بوت”
ولا يغيب عن قارئ “الليلة الكبيرة” أنها في جوهرها رواية شخصيات قبل أن تكون رواية حدث، فعلى رغم أن الزمن السردي لا يتجاوز يوماً واحداً إلا أن الرواية تستدعي خلفيات تلك الشخصيات وتاريخها الشخصي والاجتماعي، كاشفة كيف تشكلت ووصلت إلى ما وصلت إليه في تلك الليلة، وفي مقدم هؤلاء يأتي المعلم خشبة الحطاب، الفلاح القوي الذي دفعته أزمة عاطفية إلى دخول السجن، وهناك تعرف إلى عالم البلطجة وحظي برعاية الأجهزة الأمنية التي تستعين بالبلطجية في الانتخابات والتظاهرات وتصفية الخصوم، كما تتغاضى عن جرائمه طالما أنها لم ترتكب خارج تكليفها، وكما تقول الرواية فإن “الحكومة قد تتسامح في أي شيء، إلا الدم الذي لم تطالب بإراقته” (ص:42) وبهذه الحصانة ارتكب خشبة عشرات الجرائم من دون أن ترفع عنه مظلة الحماية.
انتهازية دينية
وفي المقابل يظهر طاهر كنموذج للانتهازية الدينية طامحاً إلى الزعامة عبر استغلال الدين للسيطرة على الناس، ويصفه الراوي بأنه “منافق ولكن لم يجرؤ أحد على كشف حقيقته، لأن التخفي بين أهل الرب، حتى إن لم تعد مؤمناً به وبعقابه أصلاً، يأتي بمزايا كثيرة” (ص:184) فهو يحث الناس على قيام الليل لرفع البلاء ثم يصعد إلى سطح المنزل لاغتصاب سماح.
ويبدي السرد تعاطفاً مع شخصية سماح المنتمية إلى قاع اجتماعي قاس، فقد عاشت مع أختها في بيت أمهما فاتن الذي تحول إلى وكر يقدم خدمات جنسية لطلاب المدارس، وهناك تعرفت إلى علاء بوكس الذي تزوجها لاحقاً وتابت من طريقها، فيما لم يقدر ذلك لأختها التي لقيت مصيراً مرعباً حين وقعت ضحية قاتل متسلسل، فاحتجزها واغتصبها لأشهر عدة ثم قتلها بوحشية وألقى جثتها في الطريق.
ترسم الرواية شخصية علاء بوكس كنموذج للانحراف الناتج من تربية مختلة، فقد كان لاعب كرة موهوباً حرمه أبوه منها، واتهمه ظلماً بأنه سرق المسجد وسجنه ظاناً أن الحكومة ستؤدبه وتجعله يعود عن طريق كرة القدم، ليتقاطع دربه في السجن مع عالم المعلم خشبة، ويصبح ذراعه الأيسر في عالم البلطجة.
أما أم منى فهي تجسيد للمرأة التي أجبرت على الزواج من رجل عنين يكبرها بأعوام فتخلصت منه بالسم لتتزوج عشيقها الشاب، وحين اكتشفت خيانته لها قتلته وقامت بتوزيع لحمه ممزوجاً بلحم عجل ذبحته احتفالاً بنجاح ابنتها وقدمته لساكني “أرض الموقف”، في مشهد يجمع بين البشاعة والفكاهة السوداء.
ومن بين الشخصيات يبرز عنتر عضمه، الطفل الذي وجد في صندوق قمامة وترسمه الرواية في صورة مزدوجة، الضحية والجاني، فهو طفل مجهول النسب تاه عقله في عالم المخدرات وأصبح سبباً في أزمات عدة للمعلم خشبة مع بلطجية الحارات الأخرى، مما اضطر خشبة إلى طرده من جنته، لكن عنتر لا ينسى ويعود في الليلة الكبيرة ليصفي الحساب مع الجميع، ويتحول إلى أداة انتقام عشوائي فيقتل خشبة وعلاء بوكس، وأم منى وهتلر وسافوريا في موجة عنف دامية تنهي حياة كل من شكلوا هذا العالم المنفلت من كل القوانين، وهكذا تسدل الرواية ستارها على مشهد من الدمار الكامل بموت معظم شخصياتها الرئيسة ورحيل الكائنات الفضائية التي أخذت معها صورة مشوهة عن كوكب الأرض رسمتها من قلب هذا الحي العشوائي، حيث لا قانون إلا قانون الغاب ولا قيمة إلا للقوة أو الخداع أو الدم.