ملخص
في مجموعتها القصصية “يصعب العثور على رجل جيد” التي فازت بجائزة الكتاب الوطني عام 1956، تدخل الروائية والقاصة الأميركية الكبيرة فلانري أوكونر (1925 -1946) العالم الاجتماعي المقعد في أميركا الاربعينيات، وتركز على الأمراض النفسية والسلوكية التي كان يعاني منها الأميركيون في تلك الحقبة المضطربة.

فلانري أوكونر، هي من أهم الكتاب والكاتبات في أميركا، ولدت في السافانا في ولاية جورجيا (1925)، ونشأت في بيئة محافظة دينياً، وكان لها الحظ في أن تتعرف إلى كتاب مهمين في جامعة آيوا لدى انتسابها إلى مشغل الكتابة في الجامعة عام 1946، إذ تسجلت في مادة الصحافة.

تعد الكاتبة صوتاً مهماً في الأدب الأميركي الحديث في القرن الـ20، على رغم قصر عمرها، ووفاتها في الـ39 (1964)، فقد عرفت بتأثير إيمانها الكاثوليكي بكتابتها، ولا سيما مفهوم القديس توما الأكويني الذي يؤمن بأن الله خلق العالم والله يحرسه، ولكن من دون أن تكون داعية دينية. بل أنشأت رؤية رمزية جعلت فيها القيم المسيحية الكاثوليكية موضع اختبار حيال قضايا المجتمع الأميركي المعاصر، من مثل الجريمة والفساد المستشري والمرض وانعدام الكمال والموت، وغير ذلك من المسائل التي لا تتوانى عن معالجتها في قصصها القصيرة الـ32، وروايتيها “حكمة في الدم”، و”العنيفون هم الغالبون”. وقد صدرت حديثاً ترجمة عربية أنجزها سليمان يوسف لمجموعتها القصصية الشهيرة “يصعب العثور على رجل جيد” (منشورات حياة).

قصص ذات عبرة

في القصة الأولى بعنوان “الحياة التي تنقذها قد تكون حياتك”، تروي الكاتبة فصلاً من حياة شخصية يدعى شيفتليت، عامل بائس، شاب في أواخر العشرينيات من عمره، مبتور اليد في إحدى الحروب، وها هو يدور على قرى الجنوب الأميركي طالباً العمل، وفي يده حقيبة من الأدوات التي يحتاج إليها لإصلاح كل ما صنع من الخشب. ولما كان ماراً بجوار منزل السيدة العجوز لوسينيل كريتر، أشفقت عليه، وسألته طلبه، فأجابها أنه قادر على إصلاح كل شيء ما دام نجاراً كفؤاً، وأنه لا يطلب شيئاً سوى السماح له بالسكن في أرجاء منزلهما لقاء عمله. ولحسن حظ الجميع، أمكن شيفتليت أن يصلح سيارة السيدة كريتر، وأن يخرجها من موضع ركونها بعد 15 عاماً، فانفتح له باب الزواج بابنة السيدة وهي بالاسم ذاته لوسينل كريتر، وإن تكن صماء ومتأخرة. وبينما كان يقود توم شيفتليت سيارة فورد من طراز 1929، صادف صبياً منتظراً على قارعة الطريق، أصعده وراح يسدي له النصائح بلزوم البر بالوالدة العجوز والعناية بها. فما كان من الصبي إلا أن قفز من السيارة، لاعناً أمه، وأم شيفتليت على السواء. وعلى هذا أرسل شيفتليت دعاءه “إلهي! اغسل القذارة من هذا العالم!” (ص:24).

في القصة الرابعة التي جعلتها الكاتبة أوكونر بعنوان “الزنجي الاصطناعي” تروي لنا حكاية، تكاد أن تكون رمزية، تدور أحداثها في وسط مديني من الجنوب الأميركي، ذي الغالبية العظمى من الزنوج، وأبطالها شخصان، السيد هيد، وهو عجوز قد تجاوز الـ60، وحفيده نيلسون ذو 14 سنة. ومفاد الحبكة بأن الجد هيد أراد أن يلقن حفيده درساً في التواضع والعرفان، فقرر اصطحابه إلى المدينة حيث يكثر الزنوج، ليتعرف إليهم. وفي المقابل، أراد الحفيد نيلسون، من قبوله مرافقة الجد، التثبت من صورته المثالية التي لطالما اصطنعه عنه. ولكن الأمور تتعقد على الثنائي، إذ يضيع الجد، فلا يعود يتعرف على محطات القطار التي أقلتهما لدى مجيئهما إلى المدينة، ولا الصبي نيلسون قدر على التعرف على الزنوج الذين ادعى مصادقتهم، لكونهم جميعهم سوداً.

“لقد ضللت الطريق! ضللت الطريق وأعجز عن الاهتداء إليه. ينبغي لهذا الصبي اللحاق بالقطار، ولا يمكنني العثور على المحطة. لقد ضعت يا الله. ساعدني يا الله إنني ضائع!” (ص:91).

وظل هذا الثنائي على ضياعه، إلى أن أشفق عليهما زنجي، من سكان الأحياء الفقيرة هناك، ودل الجد هيد على المحطة التي ستعيدهما من حيث أتيا، ولكن بعد انكشاف الحقيقة للجد، إذ أدرك “أن خطاياه جميعها – منذ بدء الزمان، منذ حمل في قلبه خطيئة آدم، حتى الوقت الحاضر قد غفرت. وبما أن الرب يحب بقدر ما يسامح، شعر في تلك اللحظة أنه جاهز لدخول الفردوس” (ص:95). والأهم، أن هذا الغفران أتى على يد زنجي بسيط، من أهالي ذاك الحي الذي أخافهما كليهما.
من الواضح، في كتابات فلانري أوكونر، أن العبرة الأخلاقية والدينية غالباً ما تكون ماثلة في النص، على غرار ما نجده في أقاصيص كتابنا الشرقيين، أمثال ميخائيل نعيمة ومحمود تيمور وغيرهما، ولكن مع قدر أكبر من الوصف الواقعي والتخييل والتشبيك الدرامي.

العنف والتناقض

ولا يغيب عن بال الكاتبة، إبان حياتها القصيرة، أن تعالج مسائل كان لا يزال المجتمع الأميركي يعانيها، ولا سيما العواقب التي خلفتها الأزمة الاقتصادية الكبرى، والحرب العالمية الثانية، في الأجيال الشابة، ففي القصة ذات العنوان “يصعب العثور على رجل جيد”، تتبسط الكاتبة في الكلام، وبقدر من التهكم والمبالغات المضحكة، على ظاهرة اللاتناسب المشمولة بالعنف. إذ تحكي عن شخصية سمتها الكاتبة باللامتناسب، “وقد فر من الإصلاحية الفيدرالية واتجه ناحية فلوريدا” (ص:185) وكان متهماً بقتل والده، وجمعته الصدفة بشخص يدعى بيلي، برفقة ابنه جون ويزلي، والجدة صاحبة الدعوة لهما لزيارة قريبة لها في المنطقة، واعدة إياهما بأن تقلهما بسيارتها. وما أن أدركت الجدة أنها أضاعت سبيلها في موضع ما، حتى لقيهم اللامتناسب، وأجرى نقاشاً حاداً مع الجدة حالما بلغت في استعطافه حد تشبيهه بابنها، ولزوم البر بالوالدين، انتهى بإطلاق اللامتناسب النار عليها ثلاث طلقات، وأرداها على الفور. على أن العبرة الأخرى من القصة هي أن المرء يعجز عن “رؤية التناسب بين ما ارتكبه من خطأ وما ناله من عقاب” (ص:206).

 

“أبي قتل أمي” صرخة تطلقها الروائية البرازيلية باتريسيا ميلو

الروائية الأميركية سيغريد نونيز تكتشف معنى العزاء في عصرنا
أياً تكن القصص، قصيرة أو طويلة – على غرار قصة المهجر، الأخيرة في الكتاب – يخرج قارئها بانطباع بأنها ذات إطار واقعي، بديكوراتها وشخصياتها، وبالتلاوين الكثيرة التي يكون عليها المكان، الداخلي منه والمفتوح على الأمداء البعيدة، من مثل قصة “أناس ريفيون طيبون” حيث تصور الكاتبة شخصية نسائية نموذجية عرضة لصراع داخلي بين “التقدم والتراجع” (ص:25) هي السيدة هوبويل، محاطة بعديد من النساء اللاتي يعاونها في إدارة المزرعة، ولكن من دون أن تتوقف عن الحوارات الداخلية، تبياناً لنفسيتهن وللصراعات الصامتة بين الشخصيات. إلى ذلك، لا تأنف الكاتبة من إدماج بعض التفاصيل السيرية ذات الصلة، ولا سيما إصابة الكاتبة بمرض عضال، وإخطار الأطباء لها بالسنوات القليلة الباقية لها. “إذ أخبر الأطباء السيدة هوبويل بأن جوي ربما تعيش حتى الـ45، إذ ان لها قلباً ضعيفاً، وأوضحت جوي أنها لولا حالتها هذه لكانت الآن بعيدة جداً من هذه التلال الحمر والناس الريفيين الطيبين” (ص:31).

ولا تغيب عنها الإشارة إلى موجات المهاجرين الذين توافدوا إلى الولايات المتحدة الأميركية فراراً من الحرب، ولا سيما من بولندا وألمانيا وغيرها، واضطرارهم إلى العمل في ظروف بائسة، ومواجهة ردود الأفعال العنصرية في حقهم. أما المسائل الدينية فلم تتوان الكاتبة عن طرحها، في متن القصص، إما لفضح التدليس الذي تمارسه بعض الشخصيات المتوارية خلف قناع ديني، وإما لمناقشة معتقدات شابها عديد من الالتباسات، بسبب الحياة الاجتماعية الأميركية المعقدة والمتداخلة والمتباينة.

وفي إشارة أخيرة إلى مساهمات الكاتبة فلانري أوكونر في الحياة الثقافية، فقد حبرت مئات من المقالات النقدية التي تتناول أحدث الإصدارات الفكرية والأدبية والفلسفية، في زمنها.