كيف نجد الحب على طريقة (منتصف الليل في باريس)؟ محمد سميح……المصدر:موقع ميم …MEEM
لا يجب أن تأخذ الحياة على محمل الجد، طبقًا للأدباء الوجوديين أمثال الفرنسي ألبير كامو والتشيكي ميلان كونديرا، والسبب هو عدم إمكانية تفسيرها، وغياب المعنى عنها.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للمخرج الأمريكي وودي آلن الذي يحاول أن يخلق من الفن عزاء للإنسان، إذ يقدم فيلمه (منتصف الليل في باريس) الحب كعلاج لغرابة الأطوار وعدم الانسجام مع الحياة.
بطل الفيلم غيل كاتب سيناريوهات أجير، يقرر التوقف عن عمله، وكتابة روايته الأولى عن عامل متجر النوستالجيا [الأشياء القديمة]. يذهب مع خطيبته إينز لزيارة باريس قبل زواجهما.
تتجول الكاميرا بين شوارع باريس، وتنقل أجواء السحر، تتماهى الكاميرا مع عين غيل الذي يحدث إينز عن روعة باريس وأحلامه عن الحياة فيها، والمشي تحت المطر. تتعجب من حديثه مؤكدةً على سذاجة أحلامه.
يذهبان في اليوم التالي لزيارة فرساي مع بول وكارل صديقَي إينز، ويظهر غيل متأخرًا في الكارد غير مبالٍ بالحديث الدائر أو الصحبة أو المكان، يصطف الثلاثة متجاورين في مواجهته، معبرًا عن غرابة أطواره وطموحاته في حياة بسيطة هادئة أو حسب وصفهم بوهيمية. يزداد تهميشًا في الكادر مع سخريتهم من بطل روايته، وتلخص الخطيبة فلسفته قائلة: “يريد العيش في باريس العشرينيات، والتمشية تحت المطر”، فيرد صديقها بول بأنها حالة إنكار للواقع المؤلم.
بول -على عكس غيل- واثق من نفسه دائمًا، ويملك إجابة لكل شيء، لديه شخصية استعراضية، مدَّعي ثقافة ومتحذلق من وجهة نظر غيل، بينما تراه إينز شخصية ناجحة جدًّا وجذابة. في الليل يحضرون حفل نبيذ، بعدها يقررون الذهاب للرقص، بينما يقرر غيل التمشية في شوارع باريس بحثًا عن فندق بريستول، ومع تسكع غيل في الشوارع، تُعاد موسيقى مشهد البداية، مع حضور الأجواء الساحرة للمدينة مرة أخرى. لم يعد غيل محشورًا في الكادر أو مهمشًا، بل بدا أكثر انسجامًا مع المشهد أمام الكاميرا.
وفي منتصف الليل، تقف عربة يدعوه ركابها لمشاركتهم، فيذهب معهم إلى إحدى الحفلات في عشرينيات القرن الماضي، يحتل غيل المساحة الأكبر من الشاشة كبطل لأول مرة. يجد نفسه بصحبة كلٍّ من زيلدا فيتزجيرالد وسكوت فيتزجيرالد، يشعرون بالضجر فيذهبون إلى حانة يلتقون فيها إرنست همنجواي، ينفتح غيل أكثر في صحبة همنجواي، ويشاركه تفاصيل روايته وحبكتها التي يتحفظ دائمًا في التحدث عنها مع الآخرين. ويخبره إرنست واحدة من أهم مبادئ وودي آلن: “أي شيء تمكن كتابته، المهم أن تكون الكتابة حقيقية”. ويتفق معه أن يعرض روايته على الروائية الأمريكية جيرترود ستاين. ولأول مرة في الفيلم يبدو غيل شغوفًا جدًّا، يقف خارج الحانة ويؤدي مونولوجًا مسرحيًًّا، يعيد فيه الأحداث على نفسه، ثم يقرر العودة لسؤال إرنست عن موعد ومكان لقائهما القادم، فيجد الحانة قد اختفت، وليس لها أي وجود.
في اليوم التالي يستدعي غيل خطيبته إينز لإطلاعها على عالم أحلامه، إلا أنها تشعر بالملل وتتركه، وبمجرد أن تغادر تدق ساعة منتصف الليل، وتظهر عربة فيها همنجواي. يجلس غيل جوار همنجواي مع كاميرا تبدل لقطاتها لتجمع الثنائي في كنبة العربة الصغيرة، وتركز الكاميرا على وجه المتحدث بلقطة قريبة جدًّا، مع انعكاس إضاءة أعمدة الإنارة الصفراء على وجههما بين حين وآخر، ويدور بينهما أحد أهم حوارات الفيلم عن فلسفة إرنست عن الحب، أو الطريقة التي يفهم بها مخرجُ الفيلم -وودي آلن- الحبَّ من خلال أعمال همنجواي.
“هل سبق أن طارحت امرأة عظيمة الغرام، وشعرت -حينها- بشغف صادق وجميل، وتتخلص -لوهلة على الأقل- من خوفك؟! ينبع الجبن من عدم المحبة أو عدم المحبة كما ينبغي، وهما سيان. وحين يواجه الرجل الشجاع والصادق الموت بجسارة، كصائدي وحيد القرن الذين أعرفهم، أو بيلمونتي فائق الشجاعة؛ فهذا لأنهم يحبون بشغف كافٍ لصرف أذهانهم عن الموت”، هكذا جاءت كلمات همنجواي لغيل.
يظهر همنجواي كصرخة تمرد في حياة غيل، أو كصوت بعيد من عقله الباطن، يخبره أن علاقته بخطيبته نوع من عدم المحبة أو عدم المحبة كما ينبغي. وفي وقت لاحق سيعرف غيل -عن طريق هيمنجواي- أنها أيضًا تخونه مع بول. يعجب غيل بأرديانا الفتاة الفرنسية القادمة إلى باريس من بوردو؛ بغرض دراسة صيحات الموضة. يتبادلان الأسرار، ويخبرها عن خطيبته التي تريد له أن يعيش في ماليبو ويعمل في هوليود، على عكس رغبته.
في عالم أحلامه -وحقبة العشرينيات- مع أدريانا يكون محبًّا للرقص والحفلات، ويخبرها عن فلسفته الرومانسية: “أحب المشي معكِ”، تتطور العلاقة ويزدادان تقاربًا، إلى أن يذهبا إلى عصر أقدم في تسعينيات القرن التاسع عشر، ويجدان أهل هذا العصر يحلمون بالعودة إلى عصر النهضة. يدرك غيل أخيرًا أن العودة إلى الماضي مرض، وأن الحاضر مضجر؛ لأن الحياة ذاتها مضجرة، ولا يوجد عصر ذهبي أو جميل. وعند هذا الاكتشاف تتوقف علاقته مع أدريانا مثلما توقفت مع الماضي.
ويصارح خطيبته إينز بعلمها بخيانتها إياه مع بول، ويخبرها أن إرنست همنجواي هو مَن أخبره بذلك، ويقطع علاقته معها بسبب عدم التوافق بينهما، ويقرر الكف عن عدم الانسجام مع العالم ومع ذاته. وبعدما كان معلقًا بحلم الماضي الجميل، أو أمل المستقبل مع الخطيبة غير المناسبة، والتي قد تصبح زوجة مناسبة، قرر أن يلتزم بالحاضر.. يتسكع في الشوارع وحيدًا ويرتاد المقاهي، وفي إحدى تلك اللحظات يلتقي -صدفة- أدريانا بائعة محل الذكريات والأشياء القديمة، والتي تعرف عليها في السوق، يجمعهما حب أغاني كول بورتر، الذي اشترى تسجيلاته منها وحب الأشياء القديمة الموجودة في المتجر البسيط التي تعمل فيه.
يقترح أن يتمشى معها أو أن يعزمها على مشروب. وما إن توافق على عرضه، حتى ينزل المطر، فتخبره: “واقعيًّا باريس تكون أجمل تحت المطر”؛ كاشفة عن ثالث ما يجمع بينهما؛ فالحب لا يأتي بالجهد ولن يتحقق في المستقبل، ولا في الخيال بالحنين والهرب للماضي، الحب قريب جدًّا وبعيد جدًّا، ولا يمكن أن يكون أكثر من ضربة حظ بلا جهد ولا خيال، طبقًا لمفاهيم وودي آلن.