دوافع الكتابة
بعد سنتين من وصولي جنيف والحياة بها, اجدني مندفعة لكتابة سيرة حياتي, كما لم اشعر بهذا من قبل , فقد طغى على احساس بضرورة الكتابة , لإخراج ما بذاتي وتفريغه على الورق , فقد كنت في حياتي قليلة الحديث, بما افكر , وما يتفاعل بداخلي , لضعف الوسط المحيط بي , ومنذ يومين قرات كلام لاحد المفكرين : ان الشعوب التي لا تكتب تاريخها وتدونه , تعيشه من جديد , أي ان الكتابة واخراج ما بذاتك وتدوينة وقراته , سيجعلك تعي ما مربك وترتاح ولن تعاود الوقوع بأخطائه .
هل عندي الوقت للكتابة؟ نعم , فحياتي في جنيف اتاحت لي الوقت والرغبة , انشغلت بالسنتين الماضيتين بفهم الحياة الجديدة وبتعلم اللغة الفرنسية, وانشغلت أيضا بكتابة مقالة هامة حول بحثي في رسالة الدكتوراه , اما وقد انتهيت منه وقد نشر , وجدت نفسي تتجه برغبه قوية لكتابة السيرة , مع اني كنت اعتبر ان الوقت ما زال مبكرا لاسترجاع الماضي وكتابته , فهو مرتبط عندي بسن التقاعد, في سوريا بلغته , ولكن في جنيف لا , ما زال عندي متسع لأكثر من اربع سنوات , ولكن لا اعرف كانت رغبة الكتابة قوية , هل لأنني أصبحت ادرك اهمية السباق مع الزمن ! فلآن عندي القوة لأجلس على الكرسي امام الطاولة، وعندي القدرة على الكتابة في الكومبيوتر , وعندي متعة النظر لكي ارى بعيوني وبقلبي ..
وما هو جميل خارج الوطن، انك تنشغل بنفسك بالقدر الذي ترغب وتحب , لا يشغلك جار ولا قريب الا من تعيش معه , وتعلمك الحياة بطبيعتها ان تعتمد على نفسك , وبالتالي تجد نفسك دوما في صراع مع الزمن وتدبيره بالشكل الذي تستطيع ان تحقق فيه ما ترغب وما يلزم, بالنسبة لي حياتي مع ابي فيها التزام معه , ولكن دوما كنت اكيف نفسي ووقتي قدر الامكان بحيث يكون عندي متسع من الوقت كي اكتب واقراء, وسعادتي اجدها مع نفسي وكتابي , وهذه السعادة كنت قد حصلت عليها وتمتعت بها واكتشفتها في سن مبكرة جدا في حياتي .
لكن من اهم العوامل التي دفعتني للكتابة, غير تقديري واحترامي لتجربتي في الحياة, وتوفر الوقت, هو اني وجدت نفسي في غربة حقيقية, غربة المكان , غربة اللغة, غريه التاريخ, لا ذكريات ولا عمل ولا اصدقاء , حتى انني غير معروفة بتاريخي حتى من قبل من هم اقرب الناس لي , وقد قوبلت بهجوم عنيف نسف تاريخي وعملي وماضي وجمعها بنقطة صغيرة فيها كثير من الصلف , وانا لا أرى بها الا كل الخير , والحياة لا تختزل ببضع كلمات لفهم تاريخ عمره خمسون عاما , كنت بوضع لا احسد عليه ادافع عن نفسي , كل هذا دفعني لان اتحدي واتطلع لكي اعرف الاخرين بنفسي , تركت للزمن امره, لكي يحل هذا الاشكال , وكانت الكتابة طريقا لتجميع الذات ومعرفتها .
نعم الكتابة مهمة لسرد ذلك التاريخ، ولا اعرف من سيهتم به؟ فانا الان اكتبه لذاتي , ليس عندي الولد الذي سيهتم به ذكرى , كاهتمامي بإنتاج ابي الذي حفظته له في أكياس لأكثر من اربعين عاما ليظهر الى النور كتابا اسماه في ثلاثة اجزاء “حلية التاريخ” شملت سيرة حياته, ولا اعرف ان كنت سأدفعه للنشر !كي يكون سجل لماضي سيدة سورية عاصرت حقبتين هامتين من تاريخ بلدها , تاريخها سجل حافل لزمن ما قبل الحرب وما بعدها, وامام كل هذا الذي لا اعرفه , بدأت اكتب مدفوعة برغبة تفريغ الذات , وكان هذا الامر يسعدني, وكأني انسان يولد من جديد بعد ان انتهي من كتابة كل ما ارغب قوله , بدات , وأيضا لا اعرف الى اي شط ستقودني هذه الكتابة!
اشكر الظروف القاسية التي جارت علي , والتي دفعتني للكتابة , لأنها عرفتني بنفسي اكثر , وجعلتني اقوى في هذا الزمن الصعب بتحدياته, خلقت مني انسانا جديدا اكاد لا اعرفه , اكثر حبا واكثر نقاء , منفتحة على الدنيا وعلومها ومعارفها , لا اتعصب ولا اتشدد الا لثوابت الحياة الكبرى واهمها الصدق , في كل يوم هناك امر جديد كتجدد الدم الذي يجري في العروق , اعشق الحكمة واتمثلها , وانقل معرفتي لكي يستفاد منها , اولد طاقة الحياة واعطيها لمن حولي ابتسامة واستيعابا واحتواء , فظروفنا هي التي تشكلنا تنعمنا تفتتنا وتخلق منا حالة مختلفة , هل أقول علينا ان نحتفي بالظروف الصعبة ؟ ربما لأنها توقد الذهن والعقل وتشعل القلب وتحرك النفس بحرارة لكي يفعل امرا متميزا تريده الحياة.
مقال كتبته في 22/07/2017
15. 05. 2024 جنيف
نادرة الحسامي