“إذا حللتَ في المرتبة الأخيرة فأنت لا تستحق الميدالية الذهبية”. عبّر كلام منسّق “فرنسا الأبية” مانويل بومبار عن غضب أحزاب يسارية عدة من خيار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لرئاسة الحكومة الفرنسية والذي تمثل في ميشال بارنييه. فقد اختار الرئيس شخصاً لم يحصل حزبه إلا على نحو 6 في المئة من الأصوات ليشغل هذا المنصب، كما قال بومبار في حديث إعلامي. ولا يكمن الاستياء اليساري فقط في الحجم النيابي لحزب بارنييه.

يقترح تعيين بارنييه أن فرنسا تميل إلى اليمين. بارنييه من حزب “الجمهوريين” ويشغل يمين الوسط التقليدي أو الديغولي في فرنسا. في البداية، رفض هذا الحزب التحالف مع ماكرون الأمر الذي ساهم في دفع الرئيس إلى حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة. وحظي بارنييه أيضاً بدعم ضمني من “التجمع الوطني” الذي يمثل أقصى اليمين الفرنسي بسبب مواقفه المتشددة تجاه الهجرة، لكن أيضاً بالنظر إلى أنه أفضل من أسماء أخرى اقتُرحت مؤخراً مثل زافييه برتران الذي كانت له مواقف مناهضة لـ “التجمع”.

 

من أدوات حكمه

في الانتخابات الماضية، حل “التجمع الوطني” في المرتبة الثالثة (142 نائباً) بينما جاء التحالف الرئاسي في المركز الثاني (166)، ثم “الجبهة الشعبية الجديدة” (تحالف بين اليسار وأقصى اليسار) التي حلت في المرتبة الأولى (193). وشكلت نتائج الانتخابات نوعاً من المفاجأة لأنه كان متوقعاً أن يحل “التجمع الوطني” أولاً تليه “الجبهة الشعبية الجديدة” وفي المرتبة الأخيرة التحالف الرئاسي “معاً”. بالرغم من ذلك، ظل “التجمع الوطني” في المرتبة الأولى من حيث عدد النواب التي حصل عليها كل حزب بمفرده (126 نائباً).

ترك تعيين بارنييه المراقبين يتساءلون عن سبب تحالف ماكرون مع اليسار لتكبيل “التجمع الوطني” قبل أن يفتح الباب أمام إرضاء الأخير في رئاسة الحكومة. ربما يكمن الجواب في سياسة التوازن القاسية التي يعتمدها ماكرون. خاض الرئيس الفرنسي تحالفاً ضمن “الجبهة الجمهورية” لصد تقدم “التجمع الوطني”، لكن ذلك لا يعني أنه يثق باليسار الفرنسي، أو أن اليسار الفرنسي يثق به. كان ماكرون واضحاً منذ البداية حين قال إن التحالف تكتيكي.

مع إزاحة أقصى اليمين إلى المرتبة الثالثة، حقق ماكرون هدفه الأول. بعدها، حان وقت “تكبيل” اليسار، وخصوصاً حزب “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلانشون الذي يريد، من جملة ما يريده، إلغاء الإصلاح التقاعدي الذي أقره ماكرون. وشهدت فرنسا السبت تظاهرات بدعوة من ميلانشون وحلفائه ضد “سرقة” الانتخابات التشريعية.

(ماكرون يصافح بارنييه، 2020 – أب)

ويبدو تكبيل اليسار هدفاً قابلاً للتحقيق أيضاً في المدى المنظور، بشرط أن يظل بارنييه محافظاً على دعم مارين لوبان. بحسب مستطلِع الآراء برونو جانبار، ليس من مصلحة “التجمع الوطني” إطاحة الحكومة بسرعة كبيرة. قد يكون ذلك كافياً لضمان الحد الأدنى من الاستقرار في ما تبقى من ولاية ماكرون، بالتحديد إذا كان “التجمع الوطني” مركزاً منذ اليوم على الرئاسة الفرنسية سنة 2027. للمشككين، ليس الوقت مبكراً للتفكير بتلك الانتخابات. رئيس الوزراء الأسبق في ولاية ماكرون الأولى إدوار فيليب قال الأسبوع الماضي إنه ينوي الترشح إلى الاستحقاق المقبل.

علاوة على ذلك، وبفضل خبرته الطويلة في المفاوضات بين بروكسل ولندن، وإلى جانب تبوئه عدداً من المناصب الوزارية الفرنسية سابقاً، سيكون بارنييه قادراً على البحث عن تسويات في الداخل، ربما حتى مع بعض الأطراف في “الجبهة الشعبية الجديدة” مثل “الإشتراكيين” الذين حققوا تقدماً كبيراً في الانتخابات الماضية. (بالرغم من أن الإشتراكيين نفوا نية المشاركة في حكومته).

 

ألم يكن من الأنسب اختيار يساري؟

لم تنم خطوة ماكرون فقط عن إيجاد توازن دقيق بين أقصى اليمين واليسار مع محاولات تقييدهما وحتى ضربهما ببعض عند الحاجة. ماذا لو عيّن الرئيس الفرنسي شخصية من “الجبهة الشعبية الجديدة” (مثل لوسي كاستيتس) في رئاسة الوزراء وترك اليسار يدمّر نفسه في الحكم؟ ألم يكن ذلك أفضل من أن يبدو شخصاً “يطعن” الديموقراطية؟

لا، يقول الكاتب ليونيل لوران في شبكة “بلومبرغ”. “يفترض ماكرون، على الأرجح عن صواب، أنه لا يملك سوى خطوة واحدة متاحة؛ قد لا تنجو رئاسته من أزمة أخرى، بخاصة أزمة حفزتها أسواق مالية متوترة”. وهذا هو المجهول الحقيقي بما أن قوة ماكرون تبتعد عن الإليزيه باتجاه برلمان تسيطر عليه بشكل متزايد الأصوات الراديكالية بحسب الكاتب.

من بين أبرز المشاكل التي ستواجه بارنييه خفض سقف الدين العام الذي قد يبلغ هذه السنة بحسب وزير المالية المنتهية ولايته برونو لومير 5.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. هنا أيضاً، يبدو خيار بارنييه الأمثل بالنسبة إلى ماكرون لأنه يعبّر عن استمرارية لا عن قطيعة مع سياساته وأهدافه.

(بارنييه – أ ف ب)

 

صحيح أن ماكرون لم يضمن انتصاراً على المدى الطويل إذ إن الماكرونية لا تزال مكروهة باعتبارها “نيوليبرالية” لدى اليسار و”غير فعالة” لدى اليمين، بحسب لوران. كذلك، بحسب استطلاع لـ “إيبسوس” صدر الشهر الماضي، قال 67 في المئة من المستطلعين إن قرار حل الجمعية الوطنية تسبب بنتائج سلبية لفرنسا.

لكن في يوميات السياسة الفرنسية الصعبة والمتقلبة، ربما ينبغي قياس التطورات على فترات زمنية ضيقة نسبياً. في هذا السياق، برهن ماكرون أنه يمتهن النجاة السياسية بعدما شطبَه كثر من الحياة السياسية الفرنسية.

لعل كلمات توماس فازي من موقع “أنهيرد” هي أفضل ما يلخص موقع ماكرون حالياً: “من الصعب ألا ننظر إلى هذا باعتباره انتصاراً ساحقاً لماكرون. ففي ضربة واحدة، نجح بتهميش اليسار بينما استوعب ‘التجمع الوطني‘ في التيار الرئيسي، مجبراً إياه على تقليص حدة مواقفه (…) وربما حتى بشكل محتمل، أضعف الدعم للحزب، إذا ما نُظر إليه على أنه يتودد للمؤسسة. وهذا ليس أمراً سيئاً بالنسبة إلى شخص كان يُعتبر ميتاً سياسياً قبل بضعة أشهر فقط”.