في تفكيك مواقف السوريين المتضاربة حيال قضية إدماج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري، نلحظ أن معظم حجج الطرفين الرئيسيين، المؤيد بالمطلق، والمعارض بالمطلق، تنطلق أساساً من موقف مسبق حيال السلطة الحالية في سوريا، وليس من القضية ذاتها. إذ تبدو جميع تلك الحجج، ظرفية، تتعلّق بكيفية تعامل السلطة مع هذا الملف الشائك، أكثر مما تتعلّق بحيثيات الملف ذاته.
يمكن في هذا السياق أن نورد أمثلة على حجج المعارضين لهذا الإدماج. فالتركيز على الخلفية العقائدية الجهادية للمقاتلين الأجانب، يتجاهل الخلفية العقائدية القريبة، إن لم تكن المطابقة، التي تدين بها القاعدة القتالية من السوريين، والتي تستند إليها منظومة السلطة الحالية. وهي القاعدة الأكبر عدداً، مقارنة بنظرائها من الأجانب. كما أنها البيئة الحاضنة لهؤلاء الأجانب، التي تشكّل أحد الدوافع الرئيسة التي تجعل السلطة تعمل على إدارة هذا الملف الشائك، بحذر كبير. فتلك البيئة الحاضنة، لن تقبل مطلقاً، المساس بشركاء الجبهات والدم المسفوك المشترك على الأرض، حتى لحظة إسقاط النظام البائد.
في السياق ذاته، يركّز كثيرون على مصير العقيدة القتالية للجيش السوري، في ضوء إدماج المقاتلين الأجانب، متجاهلاً أيضاً، أن تلك العقيدة القتالية تُصاغ بالفعل، باتجاه إسلامي منسجم مع تركيبة مكونات السلطة، التي تشكّل “هيئة تحرير الشام” –سابقاً-، عمودها الفقري. فإدماج مقاتلين أجانب، من خلفية جهادية، بأعداد تتراوح بين 3500 و 5000 مقاتل، لن يشكّل فرقاً جوهرياً في جيشٍ يضم عشرات آلاف المقاتلين، غالبيتهم العظمى من السوريين ذوي الخلفية الجهادية، أيضاً.
أما الحديث عن منح المقاتلين الأجانب المدمجين، الجنسية السورية، فيبدو أقل الحجج وجاهة، نظراً للبعد “التوطيني” المتعلق بالحاجة لخلق انتماء لهؤلاء الأفراد، يحثهم على الخضوع للسلطة في سياق محلي، لا عابر للحدود، بعد أن فقدوا القدرة على العودة لأوطانهم، نظراً لأنهم مدانون فيها. فخلق أفق للاستقرار بعيد المدى، لدى هؤلاء الأفراد، من أبرز العوامل التي تساعد على تشذيب خلفيتهم الجهادية غير المرغوب في بروزها، إلا في سياق يخدم مصالح السلطة. ومن هنا، تتوضح إحدى أبرز مصادر القلق حيال عملية الإدماج تلك. فالجانب الشائك هنا، يأتي من زاوية: كيف ستستغلهم السلطة القائمة؟ وفي أي اتجاه؟
وفي السياق أيضاً، يتم التركيز على العقيدة العابرة للحدود، التي تحكم عقلية هؤلاء المقاتلين الأجانب، بوصفها مسماراً في نعش “الوطنية السورية” المأمول تجسيدها في مؤسسة الجيش الجديد. ومن المستغرب معالجة هذا الملف، من هذه الزاوية. فتجربة قيادة هيئة تحرير الشام –سابقاً- في ضبط الإيقاع الجهادي، للمقاتلين الأجانب المتحالفين معها، على مدار الأعوام التي تلت الـ 2017، ونجاحها في نزع سمة –العابر للحدود- من نشاطهم القتالي، وإخضاعهم لأولويات “الهيئة” في إقناع الغرب، منذ ذلك التاريخ، بأنها لا تشكّل تهديداً له.. تلك التجربة، على مدار السنوات السبع الفائتة –على الأقل-، تشكّل ركيزة قبول الغرب، اليوم، بالرهان على سلطة الرئيس أحمد الشرع، في إدارة المشهد السوري الشديد التعقيد. فخلال تلك الحقبة، أثبتت “هيئة تحرير الشام” قيمتها النوعية بالنسبة لكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، حيال ملفَّين مهمَّين: ضبط الجهاديين في منطقة سيطرتها، والإمساك بملف المهاجرين منهم، الذين لا ترغب دولهم في عودتهم. هذا النجاح السابق، هو ما يُبنى عليه الآن، وهو سبب تراجع الأميركيين عن شرط إبعاد المقاتلين الأجانب عن الجيش السوري الجديد، والقبول برؤية الشرع لإدماجهم.
ولا يعني هذا النجاح السابق، أن لا مخاطر في المرحلة المقبلة. لكنه يعني، أنه يتم البناء على خبرة سابقة في إدارة تعقيدات العلاقة مع أصناف الجهاديين، وتحييد أو عزل أعتاهم، وتطويع الباقي بما يخدم مصالح قيادة هيئة تحرير الشام – سابقاً-. وهي القيادة التي ينحدر منها، اليوم، جلّ أصحاب المواقع الأكثر حساسية في تركيبة السلطة الراهنة.
أما من زاوية المعترضين على هذا الإدماج، من جراء غياب الأساس القانوني له. فيمكن الإقرار بوجاهة هذه الحجة بالتأكيد. لكنها تبدو أقرب للترف، في مشهد تستفرد فيه السلطة الحالية، بالفعل، بمصادر الحكم والتشريع، وسط سيولة قانونية جليّة في كل الملفات الشائكة التي تعيشها سوريا. وليس في ملف إدماج المقاتلين الأجانب، فحسب. ومن هنا، يتبدى أيضاً السبب العميق لمخاوف المعترضين، المتمثّل في الخشية من أن تكون هذه السيولة القانونية، هي السمة التي ستحكم أداء السلطة الحالية لسنوات مقبلة، لا لفترة مؤقتة محدودة زمنياً وخاضعة لاعتبارات الانتقال السياسي والأمني القائم.
هل من حلول أفضل لهذا الملف الشائك؟ يحيلنا هذا السؤال مجدداً إلى الدوافع العميقة للمعترضين على إدماج المقاتلين الأجانب. فهم، في معظم الحالات، لا ينطلقون من المعطيات الواقعية المجرّدة، بقدر ما ينطلقون من مواقف مسبقة من السلطة، التي يخشون أنها بصدد التأسيس لرأس حربة “أصمّ” مستعد للانخراط ضد مناوئي السلطة، بشراسة وانضباط مشهود له بالأوامر، مقارنة بنظرائهم من السوريين. وهذا ما يحيلنا إلى النقطة ذاتها. فإن كان موقفك إيجابياً –أو حتى حيادياً- من السلطة، فستجد أن الحل المطروح –إدماج المقاتلين الأجانب- هو أفضل المتاح. أما إن كنت تخشى من الاستفراد بمستقبل البلاد من جانب سلطة الشرع، بناء على مشاهداتك اليومية لكيفية توزيع المناصب والمواقع الحسّاسة على المقرّبين من قيادة “الهيئة” سابقاً، فسترى في لواء المقاتلين الأجانب، المزمع تشكيله، “رأس حربة” مستقبلي ضدك.