تشير المعطيات السياسية الأخيرة إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، بصدد إعادة رسم أولوياتها في الملف السوري، مع ميلٍ واضح نحو تعزيز دور تركيا كفاعل رئيسي في مستقبل سوريا الجديدة، على حساب الدور الإسرائيلي التقليدي، الذي ظل متقدماً لسنوات في هذا الملف من زاوية أمنية بحتة.
ويُعزز هذا التوجّه القرار الأميركي بتعيين السفير لدى أنقرة، توم باراك، مبعوثًا خاصًا إلى سوريا، في مؤشر واضح على اعتماد واشنطن على أنقرة في صياغة معادلة الاستقرار في سوريا ما بعد سقوط النظام السابق.
تحول محسوب في هندسة التوازنات
لم تعد سوريا، بعد سقوط النظام السابق وتشكيل الحكومة السورية الجديدة، ساحة صراع مفتوحة كما في السابق، بل بات الملف السوري اليوم في مرحلة جديدة تتطلب ترتيب أولويات واضحة وبناء شراكات فاعلة لإعادة بناء الدولة السورية.
في هذا السياق، ترى الإدارة الأميركية أن تركيا، بحكم موقعها الجغرافي وارتباطها الوثيق بالمجتمع السوري، وبقدرتها على التأثير داخل الأراضي السورية، هي الشريك الإقليمي الأكثر قدرة على لعب هذا الدور، في مقابل تراجع الدور الإسرائيلي الذي ظل لفترة طويلة يركّز على البُعد الأمني.
ومن هنا جاء اختيار واشنطن لأنقرة كشريك رئيسي في هذه المرحلة الدقيقة، وهو اختيار مدفوع بحسابات استراتيجية تتجاوز المصالح الآنية إلى رؤية بعيدة المدى لسوريا الجديدة.
أنقرة تدرك أن استقرار سوريا لا يخدم فقط المصالح التركية، بل يُشكّل أيضًا عنصر توازن في وجه محاولات بعض الأطراف، وعلى رأسها إسرائيل، لإبقاء سوريا ساحة مفتوحة للتجاذبات الأمنية.
من وجود طارئ إلى حضور استراتيجي
من المهم فهم التحوّل في المقاربة التركية نفسها تجاه الملف السوري. ففي بدايات التدخل التركي، كان الوجود العسكري في سوريا مدفوعًا بدوافع طارئة تتعلق بحماية الحدود، ومنع تمدد الميليشيات الانفصالية، ودرء تهديدات أمنية مباشرة.
لكن مع التطورات الأخيرة وسقوط النظام السابق، بات صانع القرار التركي ينظر إلى هذا الوجود بعين استراتيجية أوسع. هناك توجه تركي واضح اليوم لتحويل هذا الوجود العسكري إلى حضور طويل الأمد، يقوم على تأسيس قواعد عسكرية دائمة في مواقع مختارة، ليس لغرض الهيمنة، بل لضمان الاستقرار ومنع عودة الفوضى.
أنقرة تدرك أن استقرار سوريا لا يخدم فقط المصالح التركية، بل يُشكّل أيضًا عنصر توازن في وجه محاولات بعض الأطراف، وعلى رأسها إسرائيل، لإبقاء سوريا ساحة مفتوحة للتجاذبات الأمنية.
ضغط متزايد على “قسد”
وفي خطوة متكاملة مع هذا التوجّه، كشفت مصادر دبلوماسية مطّلعة أن واشنطن أبلغت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بما وُصف بأنه “مهلة أخيرة” للانضمام إلى “الجيش السوري الوطني”، في إطار مسار إعادة بناء مؤسسات الدولة.
تعكس هذه الخطوة رغبة أميركية واضحة في إنهاء حالة الانقسام العسكري، وإعادة توحيد البنية الأمنية والعسكرية لسوريا الجديدة، بما يحول دون استمرار الكيانات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة.
وتتماهى هذه الرؤية مع الموقف التركي، الذي طالما دعا إلى إنهاء مظاهر التفلت المسلح في شمالي وشرقي سوريا، ودمج القوى المحلية في الجيش الوطني السوري الموحّد.
يمكن القول إننا أمام مرحلة جديدة بالكامل في مقاربة المجتمع الدولي للملف السوري. وفي هذه المرحلة، برزت تركيا كلاعب رئيسي موثوق به من قِبل واشنطن، بينما بدأ الدور الإسرائيلي يفقد بريقه تدريجيًا.
تباين متزايد مع إسرائيل
في المقابل، بدأت ملامح تباين متزايد بين واشنطن وتل أبيب في مقاربة الملف السوري تظهر بشكل جليّ. فعلى الرغم من استمرار الدعم الأميركي العام لأمن إسرائيل، فإن المقاربة الأميركية الجديدة باتت تُعطي الأولوية لبناء شراكة استراتيجية مع تركيا في سوريا.
ويعود ذلك إلى إدراك الإدارة الأميركية أن إسرائيل، رغم تفوقها العسكري، لم تُقدّم حتى اليوم تصورًا متكاملاً لبناء سوريا الجديدة، واقتصرت تحركاتها على منع التموضع الإيراني، من دون الانخراط في مشروع سياسي فعّال يُسهم في استقرار البلاد.
أما تركيا، فقد أثبتت امتلاكها أدوات التأثير السياسي والمجتمعي القادرة على الدفع نحو حلّ مستدام، وهو ما جعلها تحظى بثقة واشنطن في هذه المرحلة المفصلية.
سوريا الجديدة: مشروع بناء دولة لا مناطق نفوذ
الملف السوري، وفق الرؤية الأميركية الحالية، لم يعد مجرّد ملف “إدارة مناطق نفوذ”، بل أصبح مشروع “بناء دولة”. ومن هنا جاء الضغط على “قسد” للالتحاق بمؤسسات الدولة، إلى جانب التشجيع الأميركي على تمكين الحكومة السورية الجديدة من بسط سلطتها على كامل الأراضي السورية.
وفي هذا السياق، يبرز الدور التركي كعامل دعم رئيسي لهذا المسار، سواء من خلال التنسيق مع المعارضة السورية لإعادة إدماجها في الدولة، أو من خلال ضبط الحدود وتأمين الاستقرار في المناطق الشمالية، إلى جانب إنشاء قواعد عسكرية تركية مدروسة تهدف إلى دعم جهود الاستقرار الإقليمي.
هذه القواعد لا تُوجَّه ضد طرف بعينه، لكنها تعبّر عن توجه تركي واضح لخلق بيئة آمنة، تمنع الانفلات الأمني، وتضع حدودًا لأي محاولات لإجهاض مسار إعادة بناء الدولة، بما في ذلك المحاولات الإسرائيلية لإبقاء سوريا مسرحًا للفوضى المستمرة.
مرحلة جديدة في المقاربة الدولية
يمكن القول إننا أمام مرحلة جديدة بالكامل في مقاربة المجتمع الدولي للملف السوري. وفي هذه المرحلة، برزت تركيا كلاعب رئيسي موثوق به من قِبل واشنطن، في حين بدأ الدور الإسرائيلي يفقد بريقه تدريجيًا.
وفي ظل “المهلة الأخيرة” التي وضعتها واشنطن لـ”قسد”، والتوجه التركي نحو تحويل وجوده إلى شراكة استراتيجية تسهم في استقرار سوريا، يبدو أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد شكل سوريا القادمة.