وسط هذا الموت المعمم لا يبقى لنا إلا خيار التكيف، لكن أي تكيّف هذا؟ هو تكيّف مع الموت، تكيّف مع الظلم الذي يلتهم أرواحنا، ليصبح الاعتياد على الألم أمراً لا مفر منه.
أتصفّح “الإنستغرام”…
تطالعني صورة لضحايا غارة في جباليا، صور كثيرة لشهداء وجرحى ودماء غزيرة، مشاهد هاربين من قصف قرى الجنوب والبقاع هنا. لم أكد أستوعب حجم ما يحصل من حولي ليفاجئني البوست اللاحق على “إنستغرام” بوصفة لكيفية طبخ “البولونيز”.
بين هذين العالمين أجد نفسي أتأرجح.
أمان ورفاه، كوب من القهوة صباحاً، عمل وأصدقاء وحياة ليلية…
لكن أنا هنا حيث الكثير من الموت والدم والقتل، هناك في بلادهم مساء وسهرات ومشروب ومتعة. هنا، ابتلاع للمهدئات والسجائر والأخبار مما هبّ ودبّ. عالم يزداد فيه الظلم والقهر، تتداخل فيه مشاهد الموت والدماء مع لحظات الحياة اليومية، يصبح السؤال عن إمكانية التكيّف وكيفية فعل ذلك مع هذا الواقع المرير ضرورياً أكثر من أي وقت مضى.
نعيش على وقع تنظير ما بعده تنظير وتفلسف أصم وأبكم، عما يحصل في الشرق الأوسط من “نزاعات”… نزاع؟
هكذا تُختزل حياتنا وموتنا وفناؤنا بكلمة باردة… “نزاع”.
البعض يحاول، البعض يتكلّم، لكن من بعيد. هنا الاعتياد على رائحة القتل ليس خياراً بل هو قدر لا مفر منه. لم أعد أستطيع رؤية حيوات غير متكافئة في قيمة وجودها، ولا التعامل مع كمية القسوة والظلم واللامبالاة.
)
كيف للكوكب أن يتّسع لكل هذا الظلم؟ وكأنه مخاض أبدي. إبادة تحصل أمام أعيننا من جهة، غارة تلو الأخرى هنا من جهة أخرى، شهداء وضحايا وجرحى. ألا ليت الأرض تحترق بمن فيها وما عليها! كيلومترات قليلة يُباد فيها فلسطينيون والآن لبنانيون من دون أي رحمة. الموت والدم والقتل المعمم من دون تمييز كان ولا يزال مبرَّراً باسم “القضاء على الإرهاب”.
وسط كل هذا الموت، عبثاً أحاول التأقلم وإبقاء “المعنويات”، لا أريده تأقلماً سلبياً، حتى يصبح الاعتياد هو المرجوّ لتخطّي الألم والخوف، فعليك ألا تنسى: “أنت تقبع في بقعة من الأرض لا قيمة لروح إنسان فيها”. نناشد ونستنكر وندعو. من يرانا يا ترى؟ جسد متعب لا حيلة له ليبدأ أي شيء. ليبدأ قهوة أو يُنهي مضغة طعام. لا حيلة له ليتكلّم. يبتلع ما يستطيع من السجائر بلا جدوى، فلا راحة ولا سبيل للرثاء. أجساد منهكة، قلوب متعبة، أذهان حائرة “ماذا يمكن أن يحدث أكثر مما يحدث؟”. الواقع يقول: “الكثير… سيحدث الأسوأ”، هذا ما اعتدناه، أن يأتي الأسوأ.
مررت على مصطلح رأيته مرعباً: “التكيّف”. أن تتكيّف. أن تتأقلم. أن تعتاد. هذا المصطلح الذي يصرخ في وجوهنا كل يوم ألا يكون موجوداً بيننا. لكنه هنا. يلوح في أفق الموت والدم، والقهر والحزن الجماعي.
أدعو ألا يكون كذلك. كيف يمكن لمجتمع كامل أن يكون وحيداً؟! لست وحدك الوحيدة. كلنا في وحدة عظيمة عظمة الوجود.
التكيّف هذا هو تلك الحالة التي يبدأ فيها الفرد بالتأقلم مع الألم والقهر بشكل يتجاوز حدود التحمل الطبيعي للإنسان، ليصبح القهر جزءاً من حياته اليومية. أي حينما يبدأ الإنسان بقبول الظلم وكأنه قدر لا مفر منه. والتكيّف لغةً يحمل في طياته معنى التعايش مع الواقع، لكن حينما يتحوّل إلى “سلبي”، يصبح هذا التكيّف قنبلة تنفجر داخل روح كل فرد فينا، يقتل الأمل بهدوء ويحوّل النفس إلى ما يشبه الجماد. يصبح الصمت مخيفاً معه. يصبح كل شيء خطيراً.
أن تتكيّف مع الواقع المرير أي أن تتقبّل أن الموت والنزوح والقهر والظلم واللامساواة أحداث لا مفرّ منها، يأتي الإحباط والاعتياد معها. تأثيره مدمّر، عميق لكل نفسٍ بشرية، فيصبح الألم شعوراً معتاداً. مشاهد عابرة تلك التي نشاهدها ونعيشها، تصبح بكل ما فيها من تمزيق لكل ما هو طبيعي، عابرة، اعتدناها.
أسوأ ما في التكيّف هو قبول الظلم كأمر واقع. يصبح رفع راية الاستسلام أمراً مقبولاً، مفهوماً. لتكون الأسئلة التالية شبه آنيّة وليس لها من جواب: “لماذا يحدث ما يحدث؟ متى سينتهي؟ كيف أعيش في ظل كل هذا؟”، ومع كل محاولة للإجابة، نجد أن التكيّف السلبي قد أغلق الباب أمام أي بصيص أمل، وحوّل الحياة إلى مجرد تكرار للألم. هذا التكيّف رغم أنه وسيلة لحماية النفس من الانهيار الكامل كما يبدو من اسمه، إلا أنه يحمل في طياته موتاً بطيئاً للروح، حيث ينطفئ الأمل ويذوب الغضب، ويصبح الإنسان مجرد شبح يعيش في ظل القهر من دون أن يستطيع مقاومته أو الفرار منه.
أمام هذا التناقض الرهيب، لا يبقى للإنسان إلا خيار التكيف، لكن أي تكيّف هذا؟ هو تكيّف مع الموت، تكيّف مع الظلم الذي يلتهم أرواحنا، ليصبح الاعتياد على الألم أمراً لا مفر منه. أن ترفع راية الاستسلام هي أهون ما يمكن فعله، مفهوم في غباشة كل شيء. لكن أقول لنفسي كلما ابتلعتني الأرض بما فيها “أنت تجاهدين نفسك”، جهاد النفس لعدم الاستسلام والتقيّؤ على الانهزام والتكيّف مع الموت والظلم. فما هي المقاومة إلا جهاد النفس مع النفس؟ وكيف ينعكس هذا إلى الخارج؟ “هي ليست انتصاراً وراء انتصار”، أذكّر نفسي بين فينة وأخرى وأنا أرثي حالي وأعاود المقاومة، أعاود التمرّد، فهما؛ على الرغم من الألم، ليستا خياراً بل ضرورة بقاء.