في أحد اللقاءات الجماعية الأولى بعد 2011، أمضيت ثلاثة أيام أرتدي الزي نفسه، فجاء أحد المشاركين في اللقاء (لا تربطني به أي علاقة شخصية) وعرض عليَّ أن يشتري لي سترة أخرى لأنه قدَّر أنني لا أملك المال وقتها. تعاملت بصفاء نية معه، وقدَّرت حرصه، وشكرت مبادرته، واعتذرت إليه عن قبول عرضه. لكنني استغربت هذه الجرأة في التدخل في شأن شخصي.
لدى مجتمعاتنا، رغبة شديدة في رقابة البشر؛ اللباس، الشعر، لهجة الكلام، المشي… إلخ، وغرام هائل في وضع مقاييس عامة واحدة لجميع الأفراد. المجتمعات المدينية لا تهتم بذلك لكنها لا ترغب في إظهار الإشارات التي تشير إلى الدين أو الطائفة في المؤسسات العامة.
يتمثَّل جوهر الاستبداد في تطبيق ما هو خاص على العام أو الفضاء العمومي، وهذا الجوهر يظهر في مختلف ميادين الحياة، من السياسة وبناء الدولة إلى اللباس. عندما يتم فرض عقيدة خاصة بحزب ما (البعث مثلًا) على الدولة (الشأن العام) فهذا هو الاستبداد، وعندما يتم فرض نمط خاص ومحدَّد من اللباس على عموم النساء فهذا أيضًا شكل من أشكال الاستبداد.
زي الفرد، ذكرًا كان أم أنثى، هو شأن خاص، وإن محاولة فرض قواعد عامة على الأفراد أو التدخُّل في ما هو خاص لا يصبُّ إلا في بوتقة الاستبداد. هل نريد للنساء أن يكنَّ مثل الكاسات الزجاجية الموحدة المقاسات والأشكال التي ينتجها معمل الزجاج؟!
لا يوجد في مجتمعاتنا اعتراف بالمساحات الخاصة بالأفراد ذكورًا وإناثًا، وهناك خوف عام من رقابة الآخرين وتعليقاتهم وسخريتهم. الاعتداء على المساحة الخاصة بكل فرد ذكرًا كان أم أنثى هو إحدى ميزات مجتمعاتنا التي تنتج الاستبداد على المستويات كافة. لا يوجد اعتراف بالمساحة الخاصة للفرد في وسائل النقل العامة مثلًا (البشر فوق بعضها)، وهذا مهين فعلًا للذكور والإناث على السواء.
إن مجرد الحديث عن لباس المرأة، أي عن ما هو خاص بكل امرأة، هو أمر مهين جدًا، ليس للنساء والرجال وحسب، بل وللعقل عمومًا والحس الإنساني العام أيضًا. اللباس الموحد ذي المقاييس المحدَّدة هو ضد الفطرة الإنسانية، وضد التنوع، وضد الحريات.
تخيَّلوا أن يسعى كل دين وكل طائفة وكل إثنية وكل حزب وكل أيديولوجيا، بل وكل فرد من الأحياز السابقة، لفرض مقاييسه الخاصة على الفضاء العام وعموم المواطنين والمواطنات، ألن نكون وقتها في فوضى إنسانية وعقلية مدمرة ومثيرة للسخرية في آن معًا؟!
فلنحفظ للبشر حرياتهم الشخصية ومساحاتهم الخاصة، وليكن اهتمامنا مركَّزًا على القضايا الوطنية العامة: بناء الدولة، السياسة، الاقتصاد، العدالة… إلخ.
Zalando
مُموَّل ·