لن يكون من السهل الحكم على ما أنجزته حكومة البشير خلال ثمانين يوماً، إذ سيظلّ الأمر متعلقاً بطبيعة ردود الأفعال الشعبية على بعض القرارات التي مست لقمة عيش مئات الآلاف، إلى جانب التغييرات الجذرية التي أدخلتها على النظام الاقتصادي والاجتماعي وكذلك الديني.
بقي من عمر حكومة تصريف الأعمال في سوريا أيام قليلة، إذ تنتهي مهمتها في أول آذار/ مارس. ومن المتوقع أن يشكل هذا الموعد كذلك نهاية شهر العسل للنظام السوري الجديد الذي سيجد نفسه أمام استحقاق مصيري متعلق بالوفاء بالوعود والالتزامات التي قطعها على نفسه خلال اجتماعه مع وفود الدول المختلفة، وأولها تشكيل حكومة شاملة.
سوف تدخل حكومة تصريف الأعمال هذه التاريخ السوري من أوسع أبوابه باعتبارها أول حكومة سورية تعمل لمدة خمسين يوماً من دون وجود رئيس شرعي للبلاد فوقها، وكذلك من دون وجود أي قيد دستوري يضبط عملها في ظل تجميد العمل بدستور عام2012، قبل إلغائه نهائياً في 30 كانون الثاني/ يناير بموجب مقررات “مؤتمر النصر” الذي فوّض كذلك أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية.
وقد أثارت هذه الحكومة برئاسة محمد البشير الكثير من الجدل ابتداءً من لحظة تشكيلها كامتداد لحكومة الإنقاذ، التي كانت تدير منطقة إدلب لخفض التصعيد منذ عام2017، ومروراً بالقرارات التي صدرت عنها من دون مراعاة أي ضابط دستوري أو قانوني. لكن الأخطر كان هو عدم تقيّدها بالصلاحيات المحدودة لحكومة تصريف الأعمال، فاتخذت جملة من القرارات الاستراتيجية التي تتعارض مع تعريفها الدستوري والعرفيّ، من قبيل حلّ المؤسسات وإنشاء بدائل لها، وتسريح العمال، وتعديل المناهج الدراسية، وإخلاء المساكن، وغيرها من القرارات الجدلية الأخرى.
يرى البعض أن إثارة الجدل كانت من بين الأدوار الوظيفية الملقاة على عاتق هذه الحكومة التي تولت مهماتها في ظل انهيار النظام السابق ومؤسساته الرئيسية من جيش وأمن، بحيث كانت مهمتها الأساسية هي القيام بالمهمات “القذرة” أو غير الشعبية لتطهير ما يمكن تطهيره من إرث النظام السابق قبل أن تشكل حكومة جديدة في 1 آذار من المفترض أن تخضع لرقابة محلية وإقليمية ودولية بمعايير مختلفة وأكثر صرامة.
ولن يكون من السهل الحكم على ما أنجزته حكومة البشير خلال ثمانين يوماً، إذ سيظلّ الأمر متعلقاً بطبيعة ردود الأفعال الشعبية على بعض القرارات التي مست لقمة عيش مئات الآلاف، إلى جانب التغييرات الجذرية التي أدخلتها على النظام الاقتصادي والاجتماعي وكذلك الديني. وقد لا تظهر تداعيات العديد من هذه القرارات إلا بعد تشكيل الحكومة الجديدة مما سيجعل الأخيرة مضطرة إلى تحمل ما يترتب عليها من نتائج وآثار، لا سيما لجهة الاستياء الشعبي والدعاوى القضائية التي من المحتمل أن تشكل ضغطاً كبيراً عليها.
وقد أقرّ رئيس سوريا الانتقالي أحمد الشرع بأن حكومة تصريف الأعمال كانت من لون واحد عازياً ذلك إلى ضرورة وجود انسجام بين أعضاء فريق العمل في هذه المرحلة الاستثنائية. ورغم الانتقادات الواسعة التي استهدفت الحكومة داخلياً، فإن ذلك لم يقلّل من درجة الاحتضان الإقليمي والدولي لها بذريعة أن النظام الجديد يحتاج إلى بعض الوقت لترتيب أوراقه، وهو ما اعتبره سوريون بمثابة شهر عسل للنظام الجديد تتم فيه مسامحته على أخطائه وانتهاكاته كثمن لا بد منه للانتقال من مرحلة إلى مرحلة.
وسوف يكون التحدي الأول لنظام الشرع الانتقالي بعد انقضاء شهر العسل هو تشكيل حكومة جديدة في الأول من آذار من أهم مواصفاتها ألّا تكون من لون واحد كحال حكومة تصريف الأعمال، بل يجب، وفق تصريحات مسؤولين غربيين وعرب، أن تكون شاملة للجميع. وتأكيداً لذلك، أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة غير بيدرسون أن تشكيل حكومة سورية شاملة سيكون عاملاً حاسماً في تحديد إمكان رفع العقوبات الغربية المفروضة على البلاد، كما يأتي هذا متسقاً مع المقررات التي صدرت عن اجتماع باريس منتصف الشهر الجاري، كما يتوافق مع روحية القرار 2254 الذي لم يصدر قرار بديل منه بعد.
ورغم أهمية هذه الخطوة، لم يُلحظ وجود أي نشاط على هذا المسار، كما لم تبدأ السلطة الانتقالية إجراء مشاورات لتشكيل حكومتها الجديدة الشاملة، وسط غموض يلف آليات تشكيلها في ظل عدم وجود سلطة تشريعية في البلاد. وكان “مؤتمر النصر” قرر كذلك حل حزب “البعث” وكل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي شكلت تحالفاً حكم البلاد طوال العقود الماضية، كما قرر حل كل المجالس والهيئات الثورية السياسية والمدنية.
وفي موازاة ذلك تجاهل الشرع الأحزاب الأخرى التي لم تكن منضوية ضمن الجبهة التقدمية، ورفض استقبالها أو الحديث إليها، وهو ما أثار مزيداً من الشكوك حول ولادة الحكومة الشاملة وسط غياب هذه المشاورات، لأن ذلك سيعني انفراد الرئيس الانتقالي بتعيين أعضاء الحكومة الجديدة من دون الخضوع لمعايير وضوابط تضمن التمثيل الحقيقي.
ومن المتوقع في ظل هذه المعطيات ألا يكون التغيير المرتقب متعلقاً بتشكيل حكومة جديدة بالمطلق، بل لن يتعدى كونه مجرد تعديل وزاري يطال بعض الوزارات الهامشية في حين تظل الحقائب السيادية بيد وزراء من حكومة الإنقاذ نفسها، بما سيخلفه ذلك من إضعاف نهج التشاركية الذي حضت عليه معظم الدول الغربية والعربية التي تحدثت مع الشرع.
وتأتي خطورة ذلك من أن الحكومة الجديدة لن تكون خاضعة لسقف زمني محدد، إذ من الممكن أن تستمر حتى وضع دستور دائم وإجراء انتخابات، وهو ما قال الشرع إنه قد يستلزم ما يقارب الـ 4 سنوات لإتمامه. وهي فترة طويلة بالنسبة إلى بلد خرج لتوّه من أتون حرب أهلية دامت 14عاماً، وأدّت إلى تمزيقه جغرافياً واجتماعياً؛ وقد يكون من قبيل المغامرة ارتهان مصيره لحكومة مشكلة من قبل جهة واحدة، ومن دون أي مشاورات مع شركائها في الوطن.