المجتمع الدولي واقع قائم، متحرّك وثابت في آن. محوره الأوّل سياسيّاً وعسكريّاً منذ انتهاء الحرب الباردة، الولايات المتّحدة، تنافسها الصين، خصوصاً في الاقتصاد المعولم والتكنولوجيا المتطوّرة. في السياسة الدوليّة دول أخرى مؤثّرة، وهي الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن وسواهم. وعلى المستوى الإقليمي دول نافذة أظهرت في العقود الأخيرة قدراتها وطموحات قادتها، منها إيران والسعودية وتركيا. أمّا إسرائيل ونزاعها المتواصل في الإقليم، فحالة مختلفة.
لبنان دولة تعاملت معها الدول الكبرى في محطّات فاصلة لأسباب تجاوزت الواقع المحلّي، وتحديداً في أزمة 1958 لفترة وجيزة ولاحقاً في حرب 1982، وهما حدثان مختلفان جذريّاً لجهة الأسباب والغايات والتداعيات. في أزمة 1958 جاء الاهتمام الأميركي متّصلاً بتحوّلات النظام الإقليمي العربي جرّاء المدّ الناصري والحرب الباردة وحرب السويس وتداعياتها، وصولاً إلى سقوط نظام الحكم الهاشميّ في العراق. وفي 1982 فرض الاجتياح الإسرائيلي تحوّلات كبرى في لبنان والمنطقة، فبات محتّماً التدخّل المباشر من عدّة دول.
انتهت أزمة 1958 بتسوية أميركية – مصريّة مع انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. ولم تكن التسوية متاحة في 1982 لأسباب عديدة، منها انخراط واشنطن وموسكو ودول أخرى في الحدث قبل توقيع اتّفاق 17 أيّار وبعد سقوطه. انسحبت إسرائيل إلى الجنوب واندلعت حرب الجبل، وخرجت القوّات الدولية المتعدّدة الجنسيّات من لبنان بعد استهدافها في مقارّها بعمليّة انتحاريّة. ومنذ 1984 سلّمت واشنطن بالأمر الواقع في لبنان: هيمنة سوريّة واسعة، نفوذ إيراني متزايد، احتلال إسرائيلي في الجنوب وتلاشي دور الدولة وسلطتها وسيطرة الميليشيات.
انتهت الحرب بعد مواجهات بين العماد ميشال عون ودمشق، ثمّ مع “القوّات اللبنانية”، وكان اتّفاق الطائف المخرج المتاح بدعم عربي ودولي. وسرعان ما أصبح لبنان الدولة التابعة الوحيدة في النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب الباردة. حصلت انتهاكات “الطائف” بالجملة على مرأى ومسمع المجتمع الدوليّ. معادلة هانوي مقابل هونغ كونغ، وفق توصيف وليد جنبلاط، أخذت مداها برعاية سوريّة، وسار بها المجتمع الدولي كأمر واقع ما دامت السيادة من الكماليّات غير الضروريّة بنظر الدول المعنيّة بالشأن اللبناني آنذاك.
لبنان دولة تعاملت معها الدول الكبرى في محطّات فاصلة لأسباب تجاوزت الواقع المحلّي، وتحديداً في أزمة 1958 لفترة وجيزة ولاحقاً في حرب 1982
تفاهم نيسان ينظّم الحرب ولا ينهيها
جاء تفاهم نيسان بين “الحزب” وإسرائيل في 1996 ترجمةً عمليّةً لهذا الواقع. نظّم التفاهم المواجهات العسكرية بين الطرفين بشرط تحييد الأهداف المدنية ولم ينهِ الحرب، بل منحها غطاء دوليّاً وعربيّاً وآليّة تنفيذ تولّى إدارتها الجانب اللبناني بالمدى المتاح.
أحدث الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 تبدّلات فعليّة في السياسة الأميركية في المنطقة، لا سيما تجاه سوريا ولبنان. وجاء دعم دمشق للمعارضة العراقية المسلّحة بوجه الجيش الأميركي ليحدث أزمة عميقة في العلاقات بين واشنطن ودمشق. وفي لبنان كانت الأرضيّة السياسية والشعبية مهيّأة لرفض السيطرة السورية، في الوسط المسيحي منذ سنوات، ثمّ في الوسط الدرزيّ، وفي الوسط السنّي خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. انسحب الجيش السوري من لبنان بعد خمسة أعوام على انسحاب إسرائيل وتبدّلت المعادلة الدولية. في المقابل، ظلّت حسابات أطراف الداخل والرهانات على حالها، قبل حرب 2006 وبعدها.
الحدث الفاصل في المرحلة الراهنة في ما يخصّ لبنان والمجتمع الدولي جاء مع “طوفان الأقصى” وحرب إسناد غزّة في 2023. ارتبط الاهتمام الدولي، الأميركي تحديداً، مجدّداً بالتحوّلات الإقليمية التي تجاوزت هذه المرّة اعتبارات الماضي وحتّى المألوف بالمقارنة مع حرب 1982 أو أزمة 1958. تبدّلت قواعد الاشتباك في 2024 واستعادت إسرائيل احتلالها وحرّية حركتها. وبات القرار الأممي 1701، المعزّز بمقدّمة جديدة واضحة، بمنزلة خارطة طريق بدعم دولي وعربي. وهذا يعني أنّ التنفيذ مُلزِم، خلافاً لمرحلة ما بعد حرب 2006.
الغاية غير المعلنة ممّا حصل أخيراً هي استعادة الدولة سلطتها، وتحمّل مسؤوليّتها على أرضها، وهذا غير ممكن خارج حصريّة السلاح، مثلما هو الواقع في أيّ دولة. أمّا الإصلاح، ولبنان بحاجة إلى إنجازه بمعزل عن أيّ تطوّرات خارجية، فأصبح مترابطاً في الحسابات الدولية مع استقرار الأوضاع في البلاد. هذه المسائل لم تكن مطروحة سابقاً، لا قبل حرب 1975 ولا بعدها.
الحدث الفاصل في المرحلة الراهنة في ما يخصّ لبنان والمجتمع الدولي جاء مع “طوفان الأقصى” وحرب إسناد غزّة في 2023
تطبيع بين الدّولة ومسؤوليّتها
المطروح اليوم في الحالة اللبنانية ليس التطبيع الإبراهيمي، الذي لم يعد متاحاً بلا مقابل حتّى مع دول عربيّة أخرى، بل “تطبيع” بين الدولة ومسؤوليّتها عن التزام هدنة ثابتة وإجراءات متّصلة بالحدود والأسرى واتّفاق الهدنة وسواها. تختلف أنماط عمل المجتمع الدولي، ومن ضمنه الجهات العربية، عن حسابات أطراف الداخل وغاياتها. أمّا أسهل الكلام فهو استحضار مقولة المؤامرة لتغييب الواقع والوقائع، التي يمكن معارضتها وليس من السهل تجاهلها، لا سيما أنّها تصيب الناس بعيشهم ورزقهم.
المستجدّ اليوم تلازم أهداف المجتمع الدولي مع الحاجة إلى الخروج من أزمات الداخل، خلافاً لمعادلات الماضي، زمن الأزمات الكبرى. ليس هذا التقاطع مفتوحاً ويخضع لحسابات وأولويّات تتجاوز الواقع اللبناني. في السياسة الدولية لبنان مسألة رديفة، خصوصاً في ظلّ ما استجدّ من تحوّلات وازنة في سوريا والمحيط، ولا سيما المواجهات العسكرية المفتوحة بين إسرائيل وأميركا من جهة، وإيران من جهة أخرى.
إقرأ أيضاً: الكرة في ملعب بيروت… متى تستفيق؟!
أمّا الفشل في لبنان فكلفته عالية هذه المرّة والتسويات غير متاحة مثلما كانت عليه الحال في الماضي. والضرر جرّاء الفشل بالنسبة إلى أطراف الخارج لا يقاس مقارنة مع تداعيات الفشل وأكلافه في لبنان. وما عدا ذلك رهانات متواصلة مسارُها معلوم ومصيرُها مجهول.