في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا تغيب طائرات الاستطلاع عن السماء، وكأنها صارت جزءاً من المشهد اليومي. يعتاد الناس أزيزها، لكنهم لا يطمئنون. أصوات المسيّرات لا تعني شيئاً أحياناً، لكنها كثيراً ما تفتح باب التوجس: هل نقترب من الحرب؟
هكذا تمضي الأيام في الأحياء المكتظة بالحياة، والخوف: الأسواق تعمل بحذر، المدارس تنهي عامها الدراسي وسط إشاعات، والعائلات تحاول أن تدير يومياتها بينما يدور في الخلفية سيناريو واحد: ماذا لو اندلعت الحرب غداً؟
“الشنطة جاهزة عند الباب“
في حي ماضي، تحتفظ منى (42 عاماً) بحقيبة صغيرة قرب باب غرفة النوم. تقول لـ “لبنان الكبير”: “من كم شهر، جَهّزت شنطة فيها أوراقنا، شوية تياب، وحاجيات للصغار. ما رجّعتها عالخزانة من وقتها. ما بدي أتفاجأ وضل أركض بهالعتمة والضياع متل غير ناس”.
منى لا تتابع النشرات الاخبارية بصورة دائمة، لكنها تقرأ القلق في وجوه الجيران، وتلمسه في نومها الخفيف ليلاً، وصوت المسيّرة الذي لا يغيب عن سماء الحي.
“مأجّر بيت بالجبل وبستنى الإشارة“
حسن (35 عاماً)، موظف في شركة تأمين، يقطن مع عائلته في الطابق الثاني من مبنى في حارة حريك، لكنه يدفع منذ أشهر إيجار شقة صغيرة في عاليه. “بكل بساطة، مش قادر راهن. الوضع ما بيطمن، وصرنا نعيش على أعصابنا. لو صار شي، ما بدي ضيّع وقت بهروب عشوائي”.
ويقول إنّ عدداً من أصدقائه يفعل الشيء نفسه: يستأجرون بيوتاً خارج الضاحية، وبعضهم يزورها مرّة كل أسبوع للتأكد من جاهزيتها.
“ما بجيب بضاعة جديدة“
أبو علي، صاحب متجر أدوات كهربائية في أحد شوارع برج البراجنة، توقف منذ شهر تقريباً عن شراء البضائع الجديدة. يقول: “الوضع مش طبيعي. لا الناس عم تشتري متل قبل، ولا أنا مرتاح جيب بضاعة وكبّ مصاري. إذا صار شي، مين بدو يشتري؟ وكيف بدي اتحمل خسارتي؟”.
يشير إلى رفوف شبه فارغة في المحل، “أنا تاجر، بس كمان إنسان. ما بقدر أنسى إنو بأي لحظة ممكن نسكر غصب عنا”.
خلف واجهة الحياة “الطبيعية” التي يحاول كثيرون الحفاظ عليها في الضاحية، تُدار استعدادات من نوع آخر بصمت وحذر: عائلات تنسّق مع أقارب لها في المناطق الجبلية تحسّباً لأي إخلاء طارئ، وشبّان يعلّقون خطط الزواج أو السفر حتى إشعار آخر، في حين يتردد أولياء الأمور في تسجيل أولادهم في المخيمات الصيفية، خشية أي تصعيد مفاجئ. في المقابل، تقلّص المتاجر طلبياتها وتتجنّب المغامرة بمخزون إضافي، بينما أنهى بعض المدارس عامه الدراسي برسائل مقتضبة للأهالي حملت مضموناً واحداً: “تابعوا الأخبار”.
تشرح المعالجة النفسية زهراء ح. في حديث لـ”لبنان الكبير” أن “ما نراه في الضاحية اليوم هو حالة قلق جماعي، ليس مصدره حدثاً معيناً، بل الترقب المستمر، والاشارات المتكررة التي توحي بالخطر. هذا النوع من القلق يتحوّل مع الوقت إلى تعب نفسي مزمن”.
لا أحد في الضاحية يريد الحرب، ولا أحد يدّعي أنها حتمية. لكن المؤشرات، من التصعيد في الجنوب إلى التصريحات السياسية والعسكرية، كلها تحوّل الترقب إلى نمط حياة.
تقول أم علي، وهي أم لثلاثة أولاد: “ما عم نام بعمق، دايماً في شي جواتي بيقللي خلّيكي جاهزة. حتى تلفوني بيضل مشحون عالآخر، والولاد بعلمهم شو يحملوا إذا قلنا هلّق بدنا نفل”.
هذا النمط من العيش لا يُرى من الخارج، لكنه حاضر في كل قرار صغير: من التردد في شراء غسالة جديدة، إلى التأجيل المستمر لمواعيد وخطط مستقبلية، إلى سؤال يتكرر كل مساء في كثير من البيوت: “شو صار شي اليوم؟”.