الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأمل أن تتغيّر إيران من تلقاء نفسها، لتتغيّر السياسة الأميركية تجاهها. وهذا ما قد يكون مريحاً لواشنطن، لكنّه قد لا يكون بالضرورة مريحاً للمنافسين الإقليميّين. فحين كانت طهران حليفاً استراتيجيّاً للغرب الرأسمالي، كان ذلك متعباً للدول العربية، وربّما في بعض المجالات أكثر ممّا هي متعبةٌ اليوم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان ذلك في عهد الشاه، لا في عهد الخميني، حين احتلّت إيران الجزر الإماراتيّة ورفضت الاعتراف باستقلال البحرين.
ما اختلف في مشكلة العرب مع إيران بين إيران القومية وإيران الخمينيّة، أنّ الأولى كانت تعطي الأولويّة لتمكين أدواتها الاقتصادية والعسكرية والتحالفات الدوليّة، وتوظّف تلك الأدوات في خدمة توسيع نفوذها الإقليمي. أمّا نظام الخميني فاحتفظ بالمطامع القومية الإيرانية في الإقليم، لكنّه سخّر كلّ الموارد في خدمة مشروع “تصدير الثورة” ذي الطابع المذهبي العقائدي أوّلاً. ومن أجل ذلك، واجه عقوداً من العزلة والعقوبات والعجز عن تحديث قطاعَيْ النفط والغاز.
كثيرون في دوائر القرار الغربية يحدوهم الأمل أن ينتهي “الصداع الإيراني” بتغيير سلوك النظام أو بتغييره من الداخل، كما تغيّر نظام محمّد رضا بهلوي
مواجهة صعبة
ينظر الكثير من الإيرانيين اليوم إلى بلادهم كأرضٍ للإمكانات المهدَرة. لدى البلاد أحد أكبر احتياطات النفط في العالم، وثاني أكبر احتياط من الغاز، وفوق ذلك لديها موارد ضخمة من الثروات المعدنية والأراضي الزراعية والمياه العذبة. ولديها مساحات شاسعة من الأراضي والشواطئ على الخليج العربي وخليج عُمان وبحر قزوين. أي يمكن إيران بسهولة، لو أنّها تحت حكمٍ مختلف، أن تجمع بين إيرادات قطر من بيع الغاز وإيرادات العراق من بيع النفط، وهذا يكفي الشعب الإيراني لمضاعفة معدّل دخل الفرد أربع أو خمس مرّات.
حتّى في البرنامج النووي، لم يكن لحكم الثورة الخمينيّة من فضلٍ سوى أنّه أخّر إنجاز مشروع مفاعل بوشهر الذي بدأه الشاه، وافتُتح بعد ثلاثين سنة من الموعد المفترض لإنجازه، بسبب مزيجٍ من ضعف الفاعليّة والحروب والمواجهة مع الغرب، بينما أنجزت الإمارات مفاعلاتها النوويّة خلال سنوات قليلة، وباتت لديها قدرة إنتاجية من الطاقة النووية تفوق بخمسة أضعاف الطاقة الإيرانية، ومن دون عقوبات أو صراعات.
لم يكن من السهل على الدول العربية المجاورة في السبعينيّات، والكثير منها كان حديث النشأة وقليل الموارد، أن تواجه مطامع دولةٍ بحجم إيران تبيع النفط بلا قيود، وتتمتّع بعمق سكّاني وموارد طبيعية متعدّدة، ولديها علاقاتها القويّة مع الغرب وإسرائيل. وفوق ذلك، كانت الديمغرافيا المذهبية واحدة من الأدوات التي تُستخدم بدقّة محسوبة (من مظاهرها العلاقة القويّة التي كانت تربط الشاه بالمرجع الأعلى العراقي السيّد محسن الحكيم، في زمنٍ كانت فيه العلاقات في أسوأ حالاتها بين طهران وبغداد).
يعرض ترامب الآن على إيران صفقة أشمل من صفقة أوباما: أن تعود دولة طبيعيّة مقابل أن تُفتح لها مجالات التنافس
دولة غير طبيعيّة
لماذا اختارت إيران التضييق على نفسها وشعبها؟ لا مكان للأجوبة الشعبويّة الفارغة هنا. ثمّة خطٌّ استراتيجيّ انتهجه حكم الجمهورية “الإسلامية” في تحديد عناصر القوّة الإيرانية:
الأيديولوجية الأمميّة الشيعيّة الاثنا عشريّة، التي تجعل الشيعي في جنوب لبنان جنديّاً لدى الوليّ الفقيه، ومثله كلّ خاضعٍ للتكليف، من الهند إلى نيجيريا إلى ديترويت.
الحرس الثوري، وشبكته من الأذرع الميليشيويّة العابرة للحدود (Non-state actors)، التي تهيمن على قرارات الدول، مثل “الحزب” والفصائل العراقيّة والحوثيّين والميليشيات الأفغانية والباكستانية وغيرها، التي قاتلت إلى جانب نظام الأسد في سوريا.
التسليح، وأهمّ ما فيه البرنامج الصاروخي البالستي.
البرنامج النووي، ومنشآت تخصيب اليورانيوم.
كان الغرب ينطلق في المفاوضات النووية، بمراحلها المتعدّدة، من مقاربة تبادليّة، بحيث تُسلّم إيران شيئاً من قدراتها النووية، التي ليس لها أيّ استخدام سلميّ مقنع، مقابل رفع العقوبات، والتمكّن من الاستفادة من مواردها الاقتصادية الهائلة، التي لا تحتاج إلى سوى التحوُّل إلى دولة طبيعية. لكنّ الإشكال في مقاربة باراك أوباما وشركائه في مجموعة 5+1، التي أفضت إلى اتّفاق JCPOA عام 2015، أنّها التفتت إلى القدرات النووية، وبكثير من التفصيل التقنيّ الذي يُغفل الصورة الكبيرة، وأهملت العناصر الأخرى التي تجعل من إيران دولةً غير طبيعية. وانتهى الأمر بانفلاش ميليشيات الحرس الثوري في المنطقة، وإسقاط العواصم، وإعلان الولاء للوليّ الفقيه علناً على شاشات التلفزة، من دون أيّ احترام لفكرة الدولة الوطنيّة.
إقرأ أيضاً:
سقط اتّفاق أوباما لأنّ إيران أسقطته، حين استخدمت الصفقة التبادليّة الجزئيّة لتطلق العنان لمشروع الدولة غير العاديّة، بدلاً من أن تفتح أسواقها للاستثمارات الأوروبية المتحفّزة، وتنصرف إلى التنافس الاقتصادي والسياسي الطبيعي الذي تخوضه الدول الصاعدة. وكثيرٌ من الأجيال الشابّة في إيران يطرح السؤال عن مصلحة الأمّة الإيرانية في هذا المشروع الخمينيّ الكبير، وما إذا كان يستحقّ كلّ هذا العناء من المواطن الإيراني.
يعرض ترامب الآن على إيران صفقة أشمل من صفقة أوباما: أن تعود دولة طبيعيّة مقابل أن تُفتح لها مجالات التنافس. وهذا العرض يتفاعل في الداخل الإيراني، ليس على مستوى السلطة فحسب، بل على مستوى الشارع. والجواب عليه يمكن أن يحدّد شكل التنافس الاقتصادي والجيوسياسي في المنطقة لعقود مقبلة. لكنّ التحوّل ليس سهلاً على نظام الحكم الأيديولوجيّ في طهران. فإطلاق الإمكانات الاقتصادية لا يمكن بعده ضمان السيطرة على ديناميّات الحراك الاجتماعي والسياسي في الداخل. وربّما السقوط الدراماتيكي لحكم الشاه عام 1979 يبقى درساً في خلفيّة التفكير والحذر في طهران.