…
الهجوم الذي شنّته تل أبيب على طهران فجر الثالث عشر من حزيران الجاري، والذي تصاعد وصولاً إلى دخول واشنطن المباشر بقصف أهمّ ثلاث منشآت نوويّة في فوردو ونطنز وأصفهان، أعاد إلى الواجهة الحديث عن الخيارات الإيرانية منذ السابع من أكتوبر وانطلاق معركة طوفان الأقصى. هل كان خيار إيران بالابتعاد عن الانخراط في هذه المعركة منذ بداياتها خياراً صائباً؟ أم أخطأت في التقدير ولم تدرك أنّها ستكون الحلقة الأخيرة في مسلسل أهداف الحلف الأميركي – الإسرائيلي في الإقليم؟
على الرغم من أنّ طهران كانت تدرك أنّ الأمور بالنسبة لحلفائها في المنطقة ذاهبة نحو الأسوأ، وأنّها ستكون في مواجهة تحدّي البقاء بعيدة عن دائرة النار، سعت قيادة النظام من خلال عدم الانخراط من جهة، والعمل من أجل تشكيل حلقة ضغط دولية لفرض وقف لإطلاق النار على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية من جهة أخرى، إلى توجيه رسالة إلى واشنطن والعواصم الدولية بأنّها لا تفضّل ولا تحبّذ خيار الحرب وغير راغبة به. إلّا أنّ سلوكها في التعامل مع الحرب الإسرائيلية ضدّ “الحزب” كان اللحظة المناسبة والتاريخية لهذه العواصم لتحويل هذه الرغبة في حال وجودها لديهم إلى حقيقة ميدانية.
السلوك الإيراني المتروّي الذي حمل الكثير من الإشارات والرسائل حول الرغبة في عدم السماح بانزلاق المنطقة إلى مواجهة عسكرية شاملة وواسعة، برز أيضاً من خلال تعاطي طهران مع المؤشّرات الواضحة للتهديدات التي كان يتعرّض لها النظام السوري. إذ إنّ العروض التي قدّمتها للرئيس السوري بشّار الأسد كانت من باب شبه تخلّيها عنه في اللحظات المناسبة، وأنّها عندما وجدت عدم وجود رغبة لدى الأسد في الذهاب إلى التصدّي لتحرّك المعارضة الميداني، تراجعت وتركت الأمور تسير بما يتلاءم مع أشرعة سفينة أحمد الشرع وقبطانها الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان.
لم يكن الانكفاء الإيراني عن الدخول المباشر على خطّ دعم أبزر حليفين لها في الإقليم، أي “الحزب” والنظام السوري، يعني بأي شكل من الأشكال خيانة لهما أو التخلّي عنهما
خيانة الأسد و”الحزب”
لم يكن الانكفاء الإيراني عن الدخول المباشر على خطّ دعم أبزر حليفين لها في الإقليم، أي “الحزب” والنظام السوري، يعني بأي شكل من الأشكال خيانة لهما أو التخلّي عنهما، خاصة أنّهما يتمتّعان بموقع أساسي ومفصليّ في المشروع الاستراتيجي لإيران في منطقة غرب آسيا عامّة، وإقليم الشرق الأوسط خاصّة. بل كان تعبيراً عن لحظة قراءة موضوعية وبراغماتية للمتحوّلات المقبلة على المنطقة، ومحاولة لاستدراك الوصول إلى ما هو أصعب في تداعياته وآثاره ونتائجه.
لم تكن عابرةً إشارةُ وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف إلى الجلسة التفاوضية بين إيران والولايات المتّحدة التي كانت مقرّرة في التاسع من تشرين الأوّل 2023، بل تحمل عتباً على الحليف الفلسطيني في قيادة “حماس” التي أعلنت الحرب قبل يومين من هذه الجلسة، فأُلغيت ودخلت إيران في مسار من التصعيد والتهديد مع واشنطن حول الدور والنفوذ في الإقليم.
نصف انخراط ونصف تنصُّل
إذاً موقف نصف الانخراط ونصف التنصّل ممّا شهدته المنطقة، كان تعبيراً عن التزام إيران الجزء أو النصف المرتبط بها في تسوية كبرى كانت تجري حياكتها خلف الكواليس بين طهران وواشنطن في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، الذي يشكّل النصف أو الجزء الثاني المرتبط بأزمة الملفّ النووي والعقوبات في هذه التسوية. وقد كشفت عنها الإشارات المتكرّرة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قبل مقتله، وحديثه عن التوصّل إلى اتّفاق نهائي مع الإدارة الأميركية، ولم يبقَ سوى إعلان القيادة العليا للنظام موافقتها ليصار إلى التوقيع عليه. وقد عبّر عبداللهيان عن أسفه لعدم صدور مثل هذه الموافقة التي أضاعت على إيران هذه الفرصة التاريخية.
الضوء الأخضر الذي منحته إدارة الرئيس دونالد ترامب لقيادة تل أبيب عشيّة الجولة السادسة من المفاوضات غير المباشرة بينها وبين طهران، لشنّ هجوم أمنيّ وعسكري واسع ضدّ الأصول البشرية والمادّية والنووية للنظام الإيراني، وجّه ضربة مباشرة لكلّ الجهود الدبلوماسية والسياسية التي كانت تحاول المؤسّسة الرسميّة للدولة الإيرانية بقيادة رئيسها مسعود بزشكيان تأسيسها وإرساءها في السلوك السياسي للدولة الإيرانية في تعاملها مع المجتمع الدولي.
لذلك كان وصف وزير الخارجية عبّاس عراقجي للسلوك الأميركي بأنّه “خديعة” تعرّضت لها طهران، تعبيراً عن حجم النكسة التي أصابت التوجّهات الجديدة لإيران، الذي قد يدفع بها للعودة إلى الدائرة الأولى ويؤدّي إلى ارتفاع منسوب انعدام الثقة بالمواقف الغربية، وخاصّة الأميركية.
كان وصف وزير الخارجية عبّاس عراقجي للسلوك الأميركي بأنّه “خديعة” تعرّضت لها طهران، تعبيراً عن حجم النكسة التي أصابت التوجّهات الجديدة لإيران
قد يكون رهان الرئيس الأميركي في إظهار الوجه العسكري لإدارته في التفاوض، أن يتمكّن من فرض إرادته على القيادة الإيرانية وينتزع منها أقصى درجات التنازل، بحيث لا تصل إلى تكرار النموذج أو المثال الليبي الذي تريده تل أبيب، بل إنهاء طموحاتها النووية بكلّ مستوياتها. إلّا أنّه في المقابل، وأمام عدم اليقين من نتائج الضربة التي وجّهها للمنشآت الإيرانية، قد تكون العودة إلى هذا الخيار مرّة أخرى أكثر تعقيداً، لأنّه سيعني تصعيداً مفتوحاً على جميع الاحتمالات والخيارات.
من ناحية أخرى، أعاد الدخول الأميركي المباشر صياغة الموقف الإيراني ودفعه نحو مزيد من التشدّد، سواء في ما يرتبط بالعودة إلى طاولة التفاوض، أو في ما يتعلّق بالشروط المطروحة لأيّ تسوية جديدة. فطهران التي ترى أنّها دفعت الثمن القاسي والغالي لتعاملها الإيجابي مع مسار التفاوض وإعطاء جرعة من الثقة بالمفاوض الأميركي، من الصعب عليها هذه المرّة الركون إلى أيّ مستوى من الإيجابيّة في دعوات التفاوض التي لم يطرأ عليها أيّ تعديل في الشروط الأميركية.
إقرأ أيضاً: نظام الملالي في عيون أوروبيّة
الغموض النّوويّ
بدأت إيران التي انتقلت إلى اعتماد مسار الغموض النووي بالتصعيد في موقفها بدءاً من تعليق التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، وإقفال كلّ مسارات التعاون المرتبطة بمصير ما بقي من برنامجها النووي ومخزونها من اليورانيوم المخصّب. وستكون أكثر تصلّباً مع أيّ نافذة تفاوضيّة مستقبليّة، ما لم يقدّم الجانب الأميركي سلّة متكاملة تضمن حقّها النوويّ تحت سقف المعاهدات والقوانين الدولية، خاصّة أنّ الإيجابيّة التي أبدتها في التفاوض لخمس جولات، والسلبية الأميركية بالانتقال إلى الجراحة العسكرية، أعطتاها الذريعة والغطاء الدولي لمواجهة أيّ تصعيد جديد.
لن يقتصر التصعيد هذه المرة في حال وقوعه على مواجهة ثنائية بينها وبين واشنطن، بل سيسرّع في إحداث شرخ على مستوى التحالفات الدولية، ووقوف كلّ من روسيا والصين إلى جانب طهران ودعم موقفها بالحدود السلميّة، والإبقاء على رفض تحوّل برنامجها إلى البعد العسكري الذي يتعارض مع مصالحهما الاستراتيجيّة.