الشرق الأوسط يشهد غلياناً وحراكاً ديبلوماسياً غير مسبوق، لكن هذا الزخم لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة لإدراك الجميع أنه مع الرئيس ترامب لا مجال للهروب من الاستحقاقات المقبلة. على رغم سيل الانتقادات التي تطال نهجه السياسي وما يثيره من قلق في العديد من العواصم، لا يزال دونالد ترامب المحرك الأبرز في إعادة تشكيل السلوك الدولي وفق منطق جديد، يفرض على الجميع الخروج من دائرة الجمود والتخلي عن الاتكال المطلق على واشنطن في تقديم الدعم، وإيجاد الحلول، والقيام بدور القاضي والشرطي في آنٍ.
نهج ترامب القائم على الضغط المباشر، ورفع التكلفة السياسية والاقتصادية على الحلفاء والخصوم، يخلق واقعاً مختلفاً، ليجبر الدول الكبرى والإقليمية، على حد سواء، على تحمل مسؤولياتها باتخاذ قراراتها بالحد الأدنى من الاستقلالية، أو على الأقل المساهمة في إيجاد الحلول، سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط أو حتى في مواجهة الصين وروسيا، وذلك بالطبع ضمن الحدود المقبولة أميركياً، وبما يضمن الحفاظ على المصالح العليا لواشنطن على جميع المستويات. فالحماية الأميركية غير المشروطة باتت جزءاً من الماضي، والحلول الجاهزة لم تعد متاحة بلا مقابل، ما يدفع الجميع إلى مرحلة “النضج السياسي” القسري، حيث لا مكان بعد اليوم لسياسات الاعتماد الكلي على واشنطن.
لم يكن المشهد الأخير في المكتب البيضوي بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مجرد مشهد عابر، بل كان لحظة فارقة هزّت العالم في الشكل والمضمون، حيث بدا الرئيس الأوكراني في موقف المتوسل أكثر منه الحليف، بينما أظهر ترامب بوضوح أن زمن الدعم غير المشروط قد ولى. هذه اللحظة، التي عكست التحول العميق في الموقف والنهج الأميركيين، ليست سوى امتداد لاستراتيجية ترامب القائمة على الضغط الأقصى، ودفع الجميع إلى تحمل أعباء قراراتهم بأنفسهم. زيلينسكي أوجعته الصفعة إلا أنه فهم حدود المناورة وهو سيعود إلى واشنطن لتوقيع اتفاقية الأمن والمعادن والتفاوض لإنهاء الحرب. وبالنسبة لأوروبا، التي اعتمدت لعقود على المظلة الأمنية الأميركية، فإن الرسالة باتت واضحة: إما أن تجد طريقاً لإنهاء الحرب، أو تستعد لتحمل التكاليف الباهظة، ليس فقط في ساحة المعركة بمواجهة روسيا، بل في تمويل الناتو وضمان أمنها الإقليمي دون الغطاء الأميركي التقليدي.
في منطقة الشرق الأوسط، يظهر تأثير هذه الاستراتيجية بشكل أوضح، خاصة في ظل القناعة الراسخة في دوائر صنع القرار الأميركية بأن ما ينطبق على “أميركا أولاً” ينطبق على “إسرائيل أولاً”، فأمن إسرائيل ليس مجرد أولوية أميركية مؤقتة، بل هو التزام استراتيجي طويل الأمد، ما يعني أن أي حل للقضايا الكبرى في المنطقة، سواء في غزة، أو الضفة الغربية، أو سوريا، أو لبنان، يجب أن يكون حلاً دائماً، وليس مجرد مسكنات مؤقتة تهيئ لانفجار جديد مستقبلي.
تأثير الضغط الأميركي انعكس بشكل واضح على مجريات القمة العربية في القاهرة، حيث وُضعت الدول العربية أمام تحدٍّ مباشر لإيجاد بديل عملي لسيناريو تهجير فلسطينيي غزة، إلا أن البيان الختامي فشل في تقديم حلول جذرية تتجاوز المعالجات الجزئية رغم الغياب التام لذكر “حماس” في البيان، في مؤشر لا لبس فيه إلى انتهاء حقبتها وتالياً انحسار النفوذ الإيراني في هذه البقعة الجغرافية التي طالما استُخدمت كأداة لفرض معادلات إقليمية تخدم أجندة طهران.
الشرق الأوسط يشهد غلياناً وحراكاً ديبلوماسياً غير مسبوق، لكن هذا الزخم لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة لإدراك الجميع أنه مع الرئيس ترامب لا مجال للهروب من الاستحقاقات المقبلة.
فبعد أقل من 24 ساعة على القمة في القاهرة، وبينما كانت العواصم العربية لا تزال غارقة في غموض مخرجاتها، حيث عجزت حتى عن مطالبة “حماس” بنزع السلاح أو إطلاق سراح الرهائن، جاء رد ترامب كالصاعقة عبر حسابه الرسمي على منصة “X”، إذ وجّه إنذاراً قاطعاً للحركة، بكلمات تحمل معنى أثقل من مجرد تحذير: “شالوم حماس. أقول لكم مرحباً ووداعاً. أطلقوا سراح جميع الرهائن الآن، أو سيكون هناك جحيم لا يُطاق لاحقاً!”.
في الموازاة، تكثّف إسرائيل ضرباتها في الأراضي الفلسطينية وسوريا ولبنان، في استعراض قوة يحمل رسالة واضحة: الوقت ليس في صالح أحد، ومن يراهن على إطالة أمد الأزمة والمماطلة سيجد نفسه أمام واقع أكثر تعقيداً. فالحرب معلقة ولم تنته وكل المؤشرات تدل على أنها ستستأنف وبقوّة، فالخيار العسكري هو جزء من معادلة فرض التسويات لا مجرد ورقة ضغط مؤقتة. هذا النهج الإسرائيلي يتماهى تماماً مع استراتيجية ترامب القائمة على دفع الجميع إلى حافة الخيارات الصعبة.
في ظل هذا المشهد المتسارع، أصبح التوجه العام بين الدول العربية أكثر وضوحاً، حيث بدأت خياراتها الاستراتيجية تتبلور بشكل جليّ، بعيداً عن المواقف الرمادية والمناورات غير الحاسمة. فبعد سنوات من التردد والتكيف مع المتغيرات، باتت العواصم العربية تدرك أن المرحلة المقبلة تفرض اتخاذ قرارات نهائية، وفق رؤية واقعية تتماشى مع الحقائق الجديدة على الأرض.
لكن في النهاية، يبقى التحدي الأكبر في المنطقة مرتبطاً بإيران، فأمن إسرائيل، مهما بلغت التحصينات العسكرية والدعم الأميركي، لن يكون مستداماً ما دام النظام الإيراني قائماً. التطورات الأخيرة تعزز إمكانية التحرك عسكرياً ضد إيران، بدءاً من استقالة وزير الخارجية السابق ونائب الرئيس الإيراني جواد ظريف، والتي تعكس اضطرابات داخلية، مروراً بتصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي التي أعلنت فعلياً نهاية المفاوضات النووية مع واشنطن، وصولاً إلى إصدار ترامب أمراً تنفيذياً باستئناف سياسة “الضغط الأقصى” ضد إيران، فهل أصبح الخيار العسكري ضد إيران حتمية استراتيجية في ظل غياب أي أفق ديبلوماسي ومع الإدراك الأميركي – الإسرائيلي بأن استمرار نظام الخامنئي يشكل تهديداً وجودياً للمنطقة؟
كل المؤشرات تدفع نحو هذا السيناريو، فالنفوذ الإقليمي لطهران يتآكل بشكل واضح، مع تراجع قوة وكلائها في المنطقة، وحتى داخل العراق، حيث برزت عودة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي إلى البلاد والتي تعكس تغيراً في موازين القوى، يؤشر إلى تراجع قبضة طهران.
باختصار، نحن أمام مشهد عالمي وإقليمي متغير، وما يجري في أوكرانيا، والشرق الأوسط، وإيران، ليس سوى تجسيد لمعادلة واحدة: إما التحرك نحو حلول حاسمة ومستدامة، أو مواجهة سيناريوهات أكثر حدة، قد لا تكون عواقبها محصورة في منطقة بعينها، بل تمتد إلى إعادة تشكيل النظام الدولي برمته.
*باحثة وكاتبة في الشؤون الدولية