الساحة الدولية أمام مشهد غير مسبوق يمكن اختصاره بتعبير “رقصة الأمم”، فالحكومات الكبرى اليوم ترقص “رقصة الموت والحياة” جراء ما تتخذه الولايات المتحدة من سياسات، على الأقل من غير الممكن التنبؤ بمسارها.السؤال الذي يتوجب أن يطرح للنقاش هو: ما تأثير الخلاف الأوروبي – الأميركي المتنامي على دول الشرق الأوسط، وبخاصة المنطقة العربية؟
تُعتبر العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة حتى وقت قريب، من أهم عناصر الاستقرار في العلاقات الدولية، بل حجر الزاوية، والتي تؤثر على السياسة العالمية. ومع ذلك، لم تخلُ هذه العلاقات من الخلافات والتوترات في السابق، والتي تنعكس بدورها على مناطق أخرى من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، واليوم تكاد تخرج تلك الخلافات عن السيطرة.
حساسية منطقة الشرق الأوسط السياسية ملاحظة، فهي من أكثر المناطق تأثراً بالمتغيرات في السياسة العالمية، نظراً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وثرواتها الطبيعية الهائلة.لطالما اختلفت الولايات المتحدة وأوروبا في توجهات السياسة الخارجية، بخاصة في ما يتعلق بالتعامل مع الأزمات الدولية والصراعات الإقليمية. ربما كان أشهرها في العقود الأخيرة، الخلاف بشأن إسقاط النظام العراقي السابق، فقد وقفت بعض دول أوروبا الكبيرة، مثل فرنسا، ضد تلك السياسة، إلى درجة أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي وقتها تحدث عن “أوروبا العجوز”!
كانت سياسة الولايات المتحدة في الغالب تميل إلى اتخاذ مواقف أكثر تشدداً وتدخلاً عسكرياً في الأزمات العالمية، وتفضل أوروبا في الغالب الحلول الديبلوماسية والتعاون الدولي، عدا بريطانيا والتي كانت تساير السياسة الأميركية في الغالب.المصالح الاقتصادية تلعب دوراً كبيراً في تحديد مواقف الدول تجاه الأزمات؛ فالتنافس على الموارد الطبيعية، وأيضاً التنافس على السبق الاقتصادي وبخاصة التفوق التقني تلعب دوراً رئيسياً في الاصطفاف الدولي.
في الشرق الأوسط، شكل النفط والغاز عاملاً جاذباً للقوى الدولية تاريخياً، وقد أدى إلى تفاوت في السياسات والمواقف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة في معظم سنوات القرن العشرين.كانت الاختلافات الثقافية والأيديولوجية بين أوروبا والولايات المتحدة تفرض نفسها في السياسات الخارجية؛ ففي حين كانت تميل الولايات المتحدة تقليدياً إلى نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان كجزء من سياستها الخارجية، تفضل أوروبا تقليدياً التركيز على التعاون الاقتصادي والتنمية المستدامة.
المشهد انقلب في المرحلة الأخيرة إلى عكسه أو يكاد من المنظور الأميركي، فلم تعد الولايات المتحدة معنية بتصدير الأيديولوجيا، هي اليوم تقدم مصالحها الاقتصادية على أي عنصر آخر، قد لا يكون مستداماً، ولكنه يفرض اليوم على أرض الواقع كثيراً من التحليلات لتفسير التوجه الأميركي، منها أن المنافس الرئيسي الذي تتوجس منه أميركا هو المنافس الصيني، فالتوجه إلى شيء من الوفاق مع روسيا، قد يحقق بعضاً من الأهداف، منها إبعاد الروس عن الصينيين، ومنها الاستفادة من الموارد الكبيرة في أراضي الاتحاد الروسي، حتى لو كان ذلك يخالف وجهة النظر الأوروبية، التي ترى أن تمدد روسيا غرباً سوف يصطدم بالمصالح الأوروبية، أي أن هناك تغيراً جذرياً في توجهات الولايات المتحدة في السياسة الخارجية غير مسبوق في الحجم وفي السرعة.
تؤثر الخلافات الأوروبية الأميركية أيضاً على جهود الديبلوماسية والتعاون الدولي في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، تختلف المواقف الأوروبية والأميركية بشأن الاتفاق النووي الإيراني، ما يعقد إمكانية الوصول إلى حلول ديبلوماسية مستدامة، كما تختلف في القضية الفلسطينية، التي تأخذ بعض الدول الأوروبية مكاناً وسطاً وتنادي بحل الدولتين، في الوقت الذي تناصر الولايات المتحدة السياسة الإسرائيلية دون تحفظ.
اتخذت الإدارة الحالية الأميركية قراراً بتخفيض المساعدات في مجالات التنمية الإنسانية، وتهدد بأكثر من ذلك بخفض أو حتى إلغاء المساعدات لكل من الأردن ومصر، في حين تركز أوروبا على تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية طلباً للاستقرار. النتيجة النهائية، أن الخلاف الأوروبي الأميركي، كما له تداعيات على عدد من الساحات الدولية، له أيضاً تأثير كبير على دول الشرق الأوسط، سواء من خلال التدخلات العسكرية غير المباشرة ومد بعض الأطراف بالسلاح الحديث، أو الجهود الديبلوماسية التي ترمي إلى حالة من الاستقرار، أو مجالات التنمية الاقتصادية. إن فهم هذه التأثيرات يساعد في تحليل الديناميات الإقليمية والدولية المرتقبة في منطقتنا، وكيفية تأثر دول الشرق الأوسط بالمتغيرات في السياسة العالمية.
لذلك، من المهم أن تعمل دول الشرق الأوسط على تطوير سياسات مستقلة ومتوازنة للتعامل مع هذه التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة، فالعالم كما هو ظاهر اليوم يمر بمرحلة غير مسبوقة من عدم الاستقرار… إنها رقصة الأمم الخطرة.