وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ناخبيه بعدم انخراط بلاده في حروب العالم وبسحب القوّات الأميركية من أيّ تورّط في الحروب الحالية. يعمل حالياً، بصعوبة، على وقف الحرب في أوكرانيا، وقيل إنّ إدارته شجّعت “قسد” الكردية على إبرام اتّفاق مع دمشق تمهيداً لسحب القوّات الأميركية لاحقاً من سوريا. ولئن قرّر، مع ذلك، شنّ “حربٍ” ضدّ جماعة الحوثي في اليمن، فإنّ أمراً جللاً دفع الرئيس الأميركي للانقلاب على وعوده والانخراط في صراع جديد.
تمثّل الجماعة اليمنيّة تحدّياً لاستراتيجية يعتمدها ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط. وتقوم تلك الاستراتيجية على منطق “القوّة” مفتاحاً لأيّ “سلام”، سواء ذلك الذي يريده لـ”المسألة الفلسطينية” خططاً لمستقبل قطاع غزّة، أم ذاك الذي يطمح إليه تمدّداً لاتّفاقات أبراهام، أم ذلك الذي ينشده لإغلاق ملفّ إيران. لكنّ “القوّة” أيضاً هي مفتاح ما يرسمه لتقديم بلاده قوّةً جبّارةً كبرى تفرض على الحلفاء في أوروبا قبل الخصوم في روسيا والصين الخرائط المثلى للاصطفافات الجديدة في العالم. فمن يريد الإمساك بالعالم عليه السيطرة على البحار.
هل يعرقل الحوثيون خطط ترامب؟ طبعاً لا.
ليست الجماعة إلّا ظاهرة ميليشياوية مهما اشتدّ عودها وامتلكت وسائل لتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وما أنجزته في برّ اليمن وبحره، لا سيما منذ استيلائها على العاصمة صنعاء عام 2014، لا يقوم على فائض قوّة، بل على ارتباك المجتمع الدولي وتخاذله، بما في ذلك إدارات البيت الأبيض، في التعامل مع حالة لطالما اعتُبرت من الأعراض الجانبية للتعامل مع الحالة الإيرانية. ولئن تجنّبت إدارتا باراك أوباما وجو بايدن الصدام مع صنعاء من أجل اتّفاق مع طهران، فإنّ إدارة ترامب في ولايته الأولى لم تحِد عن ذلك المسار، ولم تصنّف الحوثيين منظّمة إرهابية، إلّا بشكل صوريّ ركيك، وقبل مغادرة ترامب البيت الأبيض بعدّة أيام.
تمثّل الحالة الحوثية نموذجاً لقدرة الميليشيا، ليس على الاستيلاء على الدولة فقط، بل تهديد الأمن الإقليمي والدولي أيضاً
عندما هدّد الحوثيّون الأمن الدّوليّ
يطلّ ترامب في الولاية الثانية على ملفّ اليمن وفق تحوّلات أنتجتها حرب غزّة منذ تشرين الأوّل 2023 بالرعاية والدعم الكاملين لإدارة سلفه بايدن. أنتجت الأحداث تحوُّل الصراع بين إيران وإسرائيل إلى مستوى مباشر شهد تبادل ضربات مباشرة، وأطاحت بامتدادات طهران في المنطقة، لا سيما في سوريا ولبنان بعد غزّة. الأمر يجعل من جماعة الحوثي حالة نافرة، وخارج سياق نكتشف يوماً بعد آخر أنّ الولايات المتحدة سهرت على رسمه لمحاصرة الظاهرة الإيرانية التي التبس دائماً التعامل معها منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979.
ترامب
تمثّل الحالة الحوثية نموذجاً لقدرة الميليشيا، ليس على الاستيلاء على الدولة فقط، بل تهديد الأمن الإقليمي والدولي أيضاً. والأمر يجري بأكلاف متواضعة إذا ما قورنت بأكلاف وضع منطقة الخليج، المصدر الأساسي للطاقة في العالم، وممرّات مائية دولية حيويّة لاقتصاد العالم تحت مرمى مسيّرات وصواريخ تُهرّب أو تُصنع في ورش خلفيّة. ولم تهتمّ الإدارات الأميركية، حتى تلك الحالية، بالصراع اليمنيّ إلّا حين بات يمسّ “لعبة الأمم” وأصبح يمثّل الذراع الإيرانية الضاربة الوحيدة والأكثر “إزعاجاً” لقواعد تلك “اللعبة” وتقاليدها. والواضح أنّ الضربات الأميركية تدفّع الحوثيين ثمن مخالفة تلك القواعد ولا تهدف إلى تهديد سطوتهم على اليمن.
التعرّض لـ147 سفينة حربيّة و145 ناقلة تجاريّة
يخبرنا وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، بحدود العمليات العسكرية، ويَعِدُ بأنّها تنتهي حال إعلان جماعة الحوثي أنّها ستتوقّف عن إيذاء السفن وتعطيل الملاحة الدولية داخل المياه التي يطلّ عليها اليمن.
تمثّل الجماعة اليمنيّة تحدّياً لاستراتيجية يعتمدها ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط. وتقوم تلك الاستراتيجية على منطق “القوّة” مفتاحاً لأيّ “سلام”
يقدّم وزير الخارجية، ماركو روبيو، رواية أدقّ تقول إنّ العملية تهدف إلى إجبار الحوثيين على وقف تهديدهم للملاحة أو حرمانهم من القدرات على فعل ذلك. ويقدّم للرأي العامّ الأميركي جردة حساب تقول إنّ الحوثيين تعرّضوا لـ147 سفينة حربية و145 ناقلة تجارية تابعة لبلاده خلال 18 شهراً، بمعنى آخر يخبر أنصار ترامب بأنّ الضربات تجري دفاعاً عن “أميركا أوّلاً” ومصالحها في العالم.
لكنّ اللافت في تصريحات ترامب ومواقف إدارته هو إطلاق سرديّة بشأن إيران تخلط بين تحميلها المسؤولية ودعوتها إلى الحلّ بوقف تقديم الدعم للجماعة في اليمن. وفي تلك السردية تعتبر واشنطن أنّ طهران هي صاحبة قرار وبيدها الحلّ، وقد يتطلّب الأمر تعاونها، وإن راحت بعض التصريحات تهدّد بتوجيه ضربات إلى إيران نفسها. ولئن تكاد طهران تُقسم على لسان حسين سلامي، قائد “الحرس الثوري”، بأنّها بريئة من قرارات “مستقلّة” تتّخذها الجماعة في اليمن، فإنّ الحدث اليمنيّ يفتح ملفّات التفاوض المؤجّل بين طهران وواشنطن، بحيث تعوّل الولايات المتحدة على “سحق مميت” لورقة إيران اليمنية، فيما تعوّل إيران على عبثية الحالة الحوثية وسوريالية قائدها، عبدالملك الحوثي، في الذهاب إلى تحدٍّ يكاد يكون انتحاريّاً لأسطول ترامب في المياه المواجهة اليمن.
سيكون مستبعداً “استسلام” جماعة الحوثي واستجابتهم لشروط واشنطن بإعلان وقف تهديد الملاحة الدولية، ليس لأنّ الجماعة تملك وسائل ردّ الهجمات والقدرة على استيعابها، بل لأنّها، في بطانتها العقائدية وشبكة مصالحها في حكم ما تحكمه في اليمن، لا تملك دهاء التراجع والمناورة. بالمقابل سيكون مستبعداً أيضاً أن لا تعالج واشنطن المعضلة بالتعامل مع جذورها اليمنية بما يتطلّب مقاربة تشارك فيها الحكومة الشرعية في اليمن وحواضنها الإقليمية.
وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ناخبيه بعدم انخراط بلاده في حروب العالم وبسحب القوّات الأميركية من أيّ تورّط في الحروب الحالية
يجوز التذكير هنا بأنّ حملة ترامب العسكرية أتت بعد أيّام على تهديد زعيم جماعة الحوثي، في 8 آذار الجاري، باستئناف العمليّات البحرية ضدّ إسرائيل، ما لم تتراجع عن قرارها بمنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة خلال 4 أيام. فهل كان ذلك فخّاً إيرانيّاً؟
ترامب يورّط إدارته؟
والحال أنّ ترامب في خوضه هذه المعركة يورّط الولايات المتحدة بصراع عملت كلّ إدارات واشنطن على تجنّبه. ولئن تُسرّب إدارته أن لا خطط لهجوم برّي أو عمليات على الأرض، فإنّ الحوثي وجماعته يشعرون بالاطمئنان وحدود “القطوع” الحالي، بما يتيح لهم الإعلان عن قصف “أرمادا” أميركا أمام ناظريه، فيما تبقى المغاور في الجبال حامية لزعامته.
إقرأ أيضاً: أوروبا الحائرة أمام ترامب: استدارة أم مناورة؟
يحمي الفشل في تطويع الحوثي إطلالة إيران على البحر الأحمر بعدما فقدتها على البحر المتوسّط من البرّين السوري واللبناني. وإذا لم يستطع ترامب حسم المعركة بوسائل القوّة، فإنّه يوفّر بذلك تعويماً إضافياً لورقة إيرانية على طاولة المفاوضات. بالمقابل تقول فلسفة أخرى إنّه لا حلّ في اليمن بالنسبة لترامب إلّا بمعالجة الداء من رأسه في طهران، سلماً أو حرباً.